المبحث السادس: مفهوم التربية عند المسيحيين:
مع بداية رسالة سيدنا عيسى عليه السلام، ظهرت مرحلة جديدة. ولا بد لكل رسالة سماوية من أن يكون لها تأثير بالغ في المجال التربوي وممارساتِ المُربِّين. وظلت الكنيسة خلال قرنين من الزمن تركز على إصلاح الفرد كأساس أو مدخل لإصلاح المجمتع. وكانت هذه التربية الفردية تتمحور حول التربية الدينية والخلقية، من غير اهتمام أو التفات إلى التربية الجسدية، فالرياضة وما يتصل بها من ألعاب وتسالٍ كان حكمها الكنسي آنذاك التحريم.
ولا يمكننا الوقوف على مفهوم التربية عند المسيحيين فيما بعد، في منأى عن العلاقة المتبادلة بينهم وبين الإغريق من جهة، وبينهم وبين الرومانيين من جهة أخرى. فقد كان النشاط العملي الاجتماعي لحياة وثنية يحيط بالكنيسة. ومنذ القرن الأول الميلادي تغلغلت الديانة المسيحية في حياة الإغريق وأثْرتْ نشاطهم العقلي، ولما اعتنق الرومان المسيحية أسهموا- نتيجة اتساع رقعة إمبراطوريتهم- في انتشارها. لذلك فقد أثّرَت فيهم في المجاليْن الفكري والخلقي، وتأثَّرت هي إلى حدٍ بعيد جداً. فالتربية صورة عن نشاط يتم في مجتمع ما، وتكون أهدافها وأساليبها متوقفة على طبيعة ذلك المجتمع. وقُصارى جهدها ينصرف إلى تأثير الحياة الاجتماعية على نمو شخصية الفرد وتطورها، وبالتالي فلا يمكن دراسة مفهوم التربية عند فئة ما بأبعادها ووسائلها بمعزل عن دراسة المجتمع الذي عاشت فيه تلك الفئة بكل ما فيه([1]). وأول ما يجب الالتفات إليه في دراسة مفهوم التربية عند أي شعب وفي أي مجتمع هو تصورهم عن الإنسان لأن الاتجاه الذي تأخذه التربية لدى جميع الشعوب يتصل بما يفهمون من معنى الإنسان الكامل([2]).
ولا شك أن حالات من الصراع قد نشأت بين المسيحية وأنماط الحياة التي كانت سائدة عند كلٍّ من الإغريق والرومان، بأسسها الفلسفية وأبعادها التربوية، ونتيجة لهذا الصراع انقسم قادة المسيحية إلى فريقين:
1- فريق يرى أن العلوم القديمة من فلسفة وآداب وثنية، تفيد المسيحيين والكنيسة، وأن أغلب تلك العلوم يؤيد تعاليم الكتاب المقدس، وأن الفلسفة ما هي إلا البحث عن الحقيقة التي اسقرت في العقيدة المسيحيّة.
2- وفريق ثان يرى أن التوفيق بين الحقيقة المسيحية وبين التعاليم الدنيوية أمر مستحيل، وأن الفلسفة إذا اقترنت بالمسيحية أدت إلى الضلال والإلحاد. وأنّ الأدب والثقافة على العموم لا يمثلان إلا مباهج الحياة الدنيا ومغرياتها، وأن أولئك الذين يدرسون أساطير "هومر" وقصص "زيوس" والآلهة لا يكتسبون منها إلا رجساً. لكن من الطبيعي أن يستغل الفلاسفة الذين آمنوا بالمسيحية علمهم في خدمة الكنيسة ودينهم الجديد. خاصة أنهم كانوا يمارسون التدريس، وطبيعي أن يعتمدوا عليه في تأمين مستلزمات حياتهم. ومن هؤلاء جوستين الذي كان أستاذاً للفلسفة، وبعد أن دخل المسيحية ظلّ يبشّر بتعاليم أفلاطون، ويدَّعي أن أفلاطون وسقراط وهيراقليط كانوا مسيحيين قبل أن يظهر المسيح. وأن الفلسفة كانت تسعى إلى أن تصل إلى ما وصلت إليه المسيحية، ولكن موقف آباء الكنيسة اللاتينية كان مختلفاً، وأقدم هؤلاء "ثيرتولبان /150-230م" حيث كان يعتبر الدراسات اليونانية إلحاداً أو زندقة، والفلسفة تفسيراً خاطئاً للطبيعة ولتصرف الآلهة.
إذاً في رحم هذا النسيج الاجتماعي، المتداخل بثقافاته الضاربة في أعماق تاريخ حضارتين، تشكلت التربية المسيحية، معتمدة أسلوب الرهبنة التي تتخذ العزلة وسيلة. والرهبنة هي النُظُم وأنماط الحياة التي تمكّن الراهب من إخضاع الشهوات الجسمية والوجدانيات الانسانية، ليصبح بمقدور كل من العقل والروح أن يتفرغ للحياة الراقية. وكان التقشف والزهد هما المثل الأعلى للتهذيب الخلقي الذي يشكل غاية التربية في المسيحية، والتي تقوم على مبدأين أساسيين هما: إماتة الجسد ونبذ العالم([3]). ونشير إلى أن التربية المسيحية مرت قبل الوصول إلى مرحلة الرهبنة بمراحل، ولكلٍ منها وسائط وأساليب، ومن هذه المراحل:
1- مرحلة مدارس تعليم مبادئ المسيحية. وكان هدفها تهذيب العقل والخلق عن طريق الموسيقى وترتيل المزامير. وكانت الأسرة تعاون هذه المدرسة.
2- مرحلة مدارس الحوار الديني. وكانت متأثرة بطرق التعليم عند اليونانيين، وضرورة عند القادة المسيحيين في الاسكندرية في صراعهم مع مدارس الفكر اليونانية.
3- مرحلة المدارس الأسقفية والكاتدرائية، بداية القرن الثالث الميلادي. ولقد نمت هذه المدارس لأنها أُنشئت في المدن الكبرى حيث تدعو الحاجة لنشر التعاليم الإنجيلية. وكانت ترقيات رجال الدين تتوقف على مدى دراستهم في هذه المدارس. لذلك كان لا بد من قوانين ثابتة تنظم العمل فيها وتسهم في رقيها وتطورها.
ويمكننا بعد هذا العرض([4]) السريع للعلاقة بين المسيحية وبين الفلسفة اليونانية، والحياة الرومانية، أن نقف على حدود التربية عند المسيحيين في عصورها الأولى فنقول: "إنها تهذيب للعقل والخلق."
وسنوجز بعض الملاحظات على مفهوم التربية هذا، علماً أن الكثير من الملاحظات التي أبديناها على التربية اليونانية، والتربية عند الرومان، تصح في التربية عند المسيحيين.
ولكي يمكننا تكوين صورة عن هذا التهذيب، لا بد أن نأخذ وسائله بالحسبان: فالموسيقى في المرحلة الأولى من حياة المتعلِّم، ثم الحوار، ثم العزلة والرهبانية المبتدعة ﴿ ... وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا... ﴾ [الحديد: 57/27]. فالموسيقى والحوار هما من أهم أساليب التربية اليونانية. وقد انتقلا إلى التربية المسيحية عن طريق التفاعل بين الفلسفة اليونانية والدعوة المسيحية كما بينّا، وكذلك حياة العزلة، بما فيها من تأمّل، أيضاً هي أسلوب تربوي يوناني. ولكنه عندهم يستمر خمس سنوات، يعود بعدها المنعزل إلى حياة الجماعة يمارس دوره في توجيههم. أما في المسيحية فإنها تستمر طوال الحياة، حيث لا شأن له بالجماعة وما تؤول إليه. ذلك لأنهم كانوا يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى لا يحكم دنيا المادة، ولا شأن له بصفة خاصة بالحياة الاجتماعية، وما فيها من فساد، وما يحيط بها من باطل ... وكانوا يؤمنون بأن الحياة التي تسعى إليها المسيحية الحقة، لا تكون إلا بالإعراض عن الدنيا والبعد عنها تماماً. فكانت الرهبنة ترجمة لهذه المفاهيم، حيث يسعى الراهب للنجاة بنفسه، ويترك غيره يعيش في ضلاله حتى ينال جزاءه وهذا قمة في الأنانية، ومخالف لما جاء في محكم الكتاب العزيز ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً... ﴾ [التحريم: 66/6] ﴿ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [ آل عمران: 3/104].
أما ما يلجأ إليه الراهب مما هو معروف من تعذيب الجسد بالجوع أو بالتغذية غير المناسبة، أو السهر الطويل، والوقوف وِقفة غير طبيعية لفترة طويلة، إلى إثقال الجسد بالسلاسل وعدم العناية بنظافته عدة شهور، إن هذه الأساليب وغيرها اعتمدها الرومان ولكن على النقيض، أي لتمرين الجسد وتقويته، وكانت عندهم لفترات قصيرة، بينما هي عند المسيحيين لإذلال الجسد على حساب الروح، حتى لا تطغى شهوة الجسد ومتطلباته. وكان من الطبيعي أن ينتج عن مثل هذه التربية الرهبانية شذوذ عقلي يجعل الراهب نهباً للأحلام الشاذة.(1) ونقول : بل للشذوذ الجسدي الجنسي وما أكثر ما تطالعنا به الأخبار عن الرهبان وعلاقاتهم المثلية الشاذة.
وهكذا نرى أن بابتداعهم الرهبانية التي أرادوها أسلوباً لصفاء الروح، وتوقد العقل على حساب الجسد، أضاعوا العقل وأسلموه للأوهام، وأوهنوا الجسد ومكّنوا منه المرض والضعف. فأنَّى للروح أن تسموَ وتحلّق وهي بين جسد مريض نحيل وعقل شاذٍ عليل؟!؟! وأين هذا من مفاهيم التربية الربانية الإسلامية حيث يأمرنا عز وجل أن نبتغي الدار الآخرة فيما آتانا، وألا ننسى نصيبنا من الدنيا ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [القصص: 28/77] وأن نأخذ زينتنا عند كل مسجد﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [الأعراف: 7/31] وأن نأكل ونشرب من رزقه، شاكرين أنعمه، ولكن من غير إسراف ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ﴾ [البقرة: 2/172] ﴿كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي﴾ [طه: 20/81] ولكنهم ﴿...وحرّموا ما رزقهم الله افتراءً على الله﴾ [الأنعام/6: 140]. وأمرنا أن ننكح النساء ﴿... فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء... ﴾ [النساء: 4/3] وأن نستعفف إذا لم نكن قادرين على نفقة الزواج حتى يغنينا الله عز وجل من فضله ﴿... وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ... ﴾ [النور: 24/33]
وأين هذا من رفعة مقام العقل في الإسلام وقد شجع القرآن الكريم الهِمم على استعماله في عشرات الآيات؟!!
وأمام هذه المفاهيم التربوية المسيحية وأساليبها، لا يمكننا أن نسلِّم أنها من تعاليم المسيح عليه السلام، بل هي يقيناً كما بينّا خليطٌ من ترهات الفلاسفة وشطحاتهم، ونتيجة تفاعل آلاف العوامل السياسية والاجتماعية في تلك العصور الغوابر. وقد أخبر الله عز وجل أنهم نسوا حظاً مما ذكّروا به ﴿ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ [المائدة: 5/14] وبالتالي فإننا لا نسلم بأن مرجعية هذه التربية هي مرجعية ربانية.
المبحث السابع: التربية النهضوية:
لما كانت المفاهيم التربوية، وكذلك الأساليب المعتمدة، منبثقة - كما أكدنا سابقاً- من الحياة الفكرية لأي مجتمع، ومن نظرتهم للإنسان، ومتأثرة إلى حد بعيد بالأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فإننا لا بد أن نلحظ – في بحثنا عن مفهوم التربية – التغيرات الفكرية التي حدثت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، اللذين شكلا معاً الميدان الزمني لما يسمى بعصر النهضة. ولما كانت جذور التربية الحديثة، تنبت وترتع في حقول تلك الفترة، فإننا رأينا أن نجمعها في عنوان واحد. ولا يتسع المجال هنا لاستعراض تاريخي مفصل، لذلك سنلجأ إلى عرض المدارس التربوية عرضاً سريعاً بناءً على النزعة البارزة لكل مدرسة. بعد أن نجمل القول في العناصر الجديدة في التربية النهضوية والتربية الحديثة.
1- وأول هذه العناصر: إحياء فكرة أو مدلول "التربية الحرة."
2- إعداد المواطن الكامل الذي يتمكن من الاستقلال في مختلف المناشط الاجتماعية، في المؤسسات الخاصة والعامة. وجاء ذلك كردة فعلٍ على التربية الفردية والانعزالية في القرون الوسطى، والتي كانت الرهبنة عنواناً لها.
3- تغليب الاتجاه أو العمل الاقتصادي، والذي نتج عنه مفهوم المواطن الصالح العملي المنتج، الذي يهتم ويسهم في الحياة اليومية مساهمة قائمة على الإلمام بالمعلومات واسعة النطاق، المتعلقة بالحياة، في ماضيها وحاضرها ومستقبلها.
4- اعتماد التوازن في تربية البدن، والسلوك والأخلاق، والعقل، في إطار القيمة الجمالية والتي كانت غائبة في حياة الزهد والتقشف.
5- النظرة إلى آداب القدماء على أنها نماذج تجب الاستفادة منها، وألاّ تُقرأ للاستمتاع فحسب.
ومن أبرز هذه المدارس التربوية:
أ- مفهوم التربية في المدرسة الإنسانية: ويصفها الكثير من التربويين ومؤرخي التربية بأنها "قاصرة". ذلك لأنها اقتصرت بصفة أساسية على اللغات والآداب القديمة، واستبعدت هذه المدرسة – إلا قليلاً – الاهتمام بالتربية البدنية وعناصر التربية الاجتماعية، ولم تُعرْ مسألة إعداد الفرد للنشاط الاجتماعي كبير اهتمام. كذلك لم تُعنَ بدراسة الطبيعة، ولا بدراسة التاريخ وأبدت – ولكن بعد سنين – اهتماماً بالرياضيات. وكان هدف هذه التربية إعداد المواطن ليسلك في حياة ذلك العصر الشكلية مسلكاً ناجحاً، من الوجهة الشخصية المحضة.
وقد وصلت هذه المدرسة إلى أسوإ أحوالها في الفترة الشيشرونية، حيث نادى أتباع شيشرون([5]) بضرورة اعتماد أسلوبه في جميع المناقشات والمؤلفات، وبالتالي يجب إهمال كل موضوع لا يمكن بحثه أو التعبير عنه بهذا الأسلوب الشيشروني. وهذه المدرسة جعلت القدرة على القراءة والكتابة اللاتينية الهدف الوحيد للتربية.([6])
ب - مفهوم التربية في مدرسة الإصلاح الديني والأخلاقي: بدأت حركة الإصلاح هذه مع بداية العقد الثاني من القرن السادس عشر. وكان الراهب الألماني "مارتن لوثر"([7]) [1483م-1546م] أشهر روادها الذين رفضوا سلطة الكنيسة وانتقدوا ممارساتها الخاطئة. وقد نادت هذه الحركة الاصلاحية بتحكيم العقل في تفسير مسائل الحياة المدنية، والطبيعية، وقصر سيطرة الكتاب المقدس على الأمور الدينية. كما دعت إلى تحكيم العقل في تفسير الكتاب المقدس. وكان لوثر- في بداية حياته الاصلاحية- يرى أن ما يناقض العقل لا شك أنه أكثر تناقضاً مع الله. لكنه ارتد عن هذا التقدير للعقل في آخر حياته. فصار يرى أنه ليس هناك أمكر ولا أحذق من العقل، وأنه كوحش سامٍّ له أكثر من رأس، وهو ضد الله وضد كل أعماله. ويؤكد المؤرخون التربويون أن ذلك لم يكن حالة أو موقفاً شخصياً "للوثر" بل كان أمراً عاماً وكان من أهداف تلك الحركة باتجاهاتها الثلاث، حيث انقسمت تدريجياً إلى ثلاثة تيارات رئيسة:
(أ) اتجاه عملي فلسفي، شكَّل فيما بعد الأرضية للحركة الواقعية.
(ب) واتجاه إنساني حضنته الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، وخاصة في كنائسها على أرض فرنسا.
(ج ) واتجاه لاهوتي عاد وسيطر على الحياة الفكرية وعلى التربية بشكل عام.
إذاً كان من أهداف تلك الحركة تحقيق حياة صالحة في الدنيا، تؤتي أكلها حياة صالحة ونعيماً أبدياً في الآخرة. وتوسل زعماء هذا المذهب الإصلاحي، الدين والأخلاق معاً، مهتمين بتربية القوى العقلية والبدنية والخلقية([8]). ولكن بول منرو يقول: "نجد أنه لم تُبذل جهودٌ في تنمية قوى العقل التفكيرية والنقدية والدينية والأمور المدنية، ونظم الحياة الاجتماعية، وحقائق الطبيعة، بل إن ذلك كله ترك للقرون التالية.([9])
ويمكننا أن نقول: إن التربية في هذه الحركة لم تكن وافرة الحظ، ذلك لأنها لم تكن هدفاً، بل أقول: إن هذه الحركة قصدت الحد من سلطة رجال الكنيسة لصالح الدولة، وإلى توسيع تهيئة الفرص للتربية وتعميم التعليم. لذلك أنصبّ لوثر على مدارس الأديرة، وأنظمتها. فتوسلت هذه الحركة بعض الأفكار التربوية من مثل، ضرورة العناية بالعقل وتعظيم حكمه في وجه النص الكنسي. ولكن هذه الأفكار شكلت أساساً أو محوراً لبعض المدارس التربوية في العصور اللاحقة.
ج- مفهوم التربية في المدرسة الواقعية:([10]) يُقصد بهذه المدرسة المذهب التربوي الذي ظهر في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وكان همُّه اتباعَ المبادئ التربوية التي امتاز بها عصر النهضة الأول، وكانت – عندهم – اللغات والآداب الكلاسيكية القديمة هي الهدف الوحيد للدراسة، أو على الأقل الوسيلة الوحيدة للتربية، ذلك أنهم كانوا يعتبرون أن هذه الآداب أرقى ما وصل إليه العقل البشري، وتشتمل على أغزر ما أنتجه الذكاء الإنساني، وهؤلاء هم أصحاب الواقعية اللفظية.
أما أصحاب الاتجاه الحسي، من أتباع المدرسة الواقعية، فكانوا يرون أن المعرفة تأتي عن طريق الحواس. وبالتالي فإن التربية يجب أن تُؤَسَّس على الإدراك الحسي، وليس على البحوث النظرية التأمّليّة. وقد اعتقد هؤلاء أن التربية عملية طبيعية أكثر منها صناعية، وأن القوانين والمبادئ التي يجب أن تُؤسَّسَ عليها التربية يمكن الكشف عنها في الطبيعة.
وهناك اتجاه آخر في هذه المدرسة، هو الواقعية الاجتماعية. وكان أصحابه يهدفون إلى معرفة الدوافع الإنسانية، ونظم الحياة البشرية، وبالتالي إلى السيطرة على جميع مرافق الحياة المحيطة بهم طبيعياً واجتماعياً.
ومن الضروري أن نشير إلى أن هذه المدرسة الواقعية، نشأت كردة فعل على خيبة الأمل، في فشل حركة الإصلاح الديني في إحداث إصلاح اجتماعي، فاتجهوا إلى العلوم والطرق الحديثة لإزالة مساوئ ذلك العصر.
ولقد بينّا مفهوم العقل من وجهة نظر إسلامية، وكذلك بينّا أثر الواقع والحواس في تشكّله. وبينّا أيضاً دور البيئة الاجتماعية في ذلك وأثرها في بناء الشخصية عامة، لذلك لن نعيدَ الكلامَ في هذه المسائل هنا دَفعاً للتكرار.
د- مفهوم التربية في المدرسة التهذيبية: والمتتبع لأصول هذه المدرسة يجد أنها خليط من مبادئ وأساليب، لها جذور يونانية ومسيحية، وبالتحديد رهبانية. وأنصار هذه المدرسة يرون أن عملية التعليم – لا الموضوع المتعلَّم – هي أهم شيء في التربية، وأعظم محدد لمعناها. ومن رؤوس هذه المدرسة، جون لوك([11]) [1632م-1704م] الفيلسوف الإنكليزي الذي يمثِّل مبادئها خير تمثيل، فهو يعتبر أن أعظم عمل للمربي هو أن يقوّم السلوك، وأن يشكِّل العقل وأن يغرس في تلميذه العادات الطيبة ومبادئ الفضيلة والحكمة، ويقوده إلى حب ما هو حميد وجدير بالثناء.
ومن الملاحظ أن الاستعدادات الخاصة التي توجبها على التربية مواقف الحياة أو حاجاتها المختلفة، لم تُعنَ بها هذه المدرسة، كما أن ميول التلاميذ واستعداداتهم الخاصة لم تكن موضع اهتمام عندها، ذلك أنهم كانوا يرون أن الدراسات التهذيبية كفيلة بأن تخلق أعظم إعداد مستطاع لأي مطلب حياتي، إذن الهدف من هذه التربية تقوية القدرات العقلية. ولكنهم اختلفوا في الطريقة التي يجب أن تعتمدَ، فرأى بعضهم أنها لا يمكن أن تكون إلا عن طريق دراسة العلوم الطبيعية وجعلها أساساً للتربية. ومن هؤلاء "هكسلي"([12]) "وسبنسر"([13]) وهم يعتبرون أن اكتساب المعرفة وحده يشحن الذاكرة فحسب، ولا يمكّن القدرات العقلية من النمو. بينما يرى آخرون أنَّها تتحقَّق في تلك الدراسات التهذيبية. ويعتبرون أن من لا تسعفه قدراته على الاستفادة من هذه الدراسات فهو غير قادر على النهوض بمهام الحياة والاستفادة من فرصها([14]).
ويمكن اختصار نظرة هذه المدرسة تربوياً بقولنا: إنها تعتبر عقل الطفل ورقة بيضاء، يمكننا أن نملأها بما نشاء. وهكذا لم تعر هذه المدرسة الصفات الفردية من ميول واستعدادات أي اهتمام، وإن كنا نوافقهم إسلامياً في أن الإنسان يخرج من بطن أمه صفحة بيضاء.﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً﴾ [النحل: 16/78]. فإننا نقيم وزناً تربوياً واعياً لمسألة اختلاف القدرات ﴿... وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ [البقرة: 2/247] وقوله تعالى ﴿... وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً... ﴾ [الأعراف: 7/ 69] وقوله تعالى﴿وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾ [فاطر: 35/19] ﴿ وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاء وَلا الأَمْوَاتُ.. ﴾ [فاطر: 35/22] ﴿ … وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ …﴾ [النساء: 4/32]
كما يؤكد مكانة الاستعدادات الخلقية لاكتساب المبادئ الخُلقية قوله عليه الصلاة والسلام "إنَّ اللهَ قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم"([15]). فما أعظم مبادئ التربية الإسلامية! حيث توازن بين الصفات الجبليِّة والجهود التي تبذل في العملية التربوية، من غير انحياز أو تغليب لعامل على آخر.
فلكل مولود استعدادات خاصة، علينا أن نسعى لاكتشافها ونبني عليها. وهذا الفهم التربوي الإسلامي نراه محققاً واقعاً في أيامنا هذه، حيث هناك مدارس لأصحاب الحاجات الخاصة، وأخرى للمميزين. كما أن هناك المدارس العادية العامة، والتي تناسب أعلى نسبة من جمهور البشر.
هـ- مفهوم التربية في المدرسة الطبيعية: وهذه المدرسة هي التي ظهرت أوائل القرن الثامن عشر، وجسدتها أفكار الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (1712م-1778م) والتي جاءت رداً على شرور النظم الاجتماعية والسياسية. وكان هدفها القريب هدم صروح المجتمع القائم، والذي صوره روسو على هيئة وحوش من ذكور وإناث، يعملون في الحقول، لونهم أسود من شدة حرارة الشمس، ولكن عندما يقفون على أرجلهم تبدو وجوههم البشرية. فقد قاده شعوره الشخصي وعطفه على أفراد الشعب الذين ساءت حالهم من جرّاء إهمال الطبقة العليا، إلى ثورة عنيفة، وإلى وضع تعاليمه الجديدة المتمثلة بالإيمان بالطبيعة وبالرجل العادي، فكان هدفه البعيد إنشاء مجتمع مثالي على أسس هذه المدرسة. ومع أهمية "روسو" في التاريخ عامة وفي تطور الفكر التربوي خاصة، حتى قال نابليون([16]) فيه: "لولاه ما قامت للثورة الفرنسية قائمة" فإنه امتاز ببصيرة نافذة، وبعطف لا حدود له، وبمعلومات كانت قليلة والصحيح منها أقل ، أما قدرته العقلية فكانت ساذجة لذلك انحصر عمله في الأفكار التي سبقه إليها غيره([17]).
وهذه المدرسة نظّرت للتربية من خلال الطبيعة، ونادت بضرورة التثقيف الذاتي الحر لمواهب الناشئ الطبيعية. وأكّدت على مبادئ الحرية والمساواة والأخوة وهي المبادئ التي نادت بها وقامت عليها الثورة الفرنسية عام 1789م.
كما ترى هذه المدرسة أن التربية الخُلُقية تُكتسب بطريقة ذاتية، عن طريق العقاب الطبيعي، من غير حاجة إلى القوانين المستمدة من التاريخ والأساطير. وليس جائزاً تعليم الأولاد مبادئ عن الحق والباطل. أما العادات من اجتماعية وغيرها فيرى روسو أن خير عادة ألا يكون للطفل عادة. فالميول الفطرية التي يغيرها التثقيف، أو التزييف، أو الإيحاء، هي قوام الطبيعة التي هي ضد تربية العادات. أما التدين فيجب أن ينبع من القلب ولا شأن للدماغ به، وعلى الإنسان أن يستشعره لا أن يتفكّره ([18]). فالتربية عنده عملية طبيعية لا عملية صناعية، أي تنمو من الداخل من غير إمداد أو تأثير من الخارج، وهي وليدة عمل الغرائز والميول، لا نتيجة التلبية لمؤثرات خارجية. فهي الحياة ذاتها وليست الإعداد لها.
إن أبسط ما يقال عن هذه المدرسة: إنها أرادت أن تجد حلاً للفساد الذي استشرى وبلغ ذروته، وألقت باللائمة في أسبابه على ما كان قائماً من مبادئ ووسائط تربوية، تعتمد على تعاليم الكنيسة من جهة، وعلى الآداب القديمة من جهة أخرى، من غير أن يكون لها علاقة بواقع الحياة. فرفضت تلك المذاهب التي تمثِّل في مرجعيتها مصدرين هما: الدين من جهة، وثقافة إنسانية متراكمة، تتداخل فيها تعاليم ومبادئ فلسفية من يونانية ورومانية من جهة أخرى... فاتخذت الطبيعة مرجعاً، وأرادت للطفل أن يربى محاكياً الطبيعة بمظاهرها وقوانينها، فيتتلمذ لها بدلاً من التلمذة على يد مربٍ. وهذا لعمري صحيح في الجزء الأول أي، رفض ما هو قائم، ولكن الحل جاء غير مناسب لطبيعة البشر. فكيف يكون الإنسان السيد المستخلف لعمارة هذا الكون تبعاً للطبيعة، وهي مخلوق مثله؟! وفي الجانب الآخر وهو العملي في هذه المدرسة، وهو الوجه السياسي، فقد اعتمد الديمقراطية، لسحب البساط من تحت أرجل الأقلية الحاكمة، والمتمثلة بسلطة الكنيسة والطبقة العليا، وتحمل في طياتها إبطال فاعلية النظام التربوي الذي كان سائداً، وبالتالي إبطال مؤسساته.
أما من حيث إن الطبيعة هي المرجع، ويجب أن يُترك الطفلُ لغرائزه وميوله من غير تدخل من الخارج، فإن واقع روسو نفسه، وهذه المدرسة عامة يبطل أسسها. إذ نرى سعي روسو ومدرسته للتأثير في الناس ليلتزموا هذا المذهب.
و- مفهوم التربية في المدرسة النفسية وهي امتداد أو قل تطوير لمبادئ المدرسة الطبيعية، واستفادت من نظرية النشوء والارتقاء التي جاء بها داروين([19]) ومن أعلام هذه المدرسة "بستالوتزي"([20]) الذي عني بالطرائق أكثر مما عني بالمبادئ والمفاهيم. وكان يقول: راقب الولد وتعلّم منه كيف تعلِّمه. وقد أسس عدة مدارس، راقب فيها مع معاونيه الأولاد. وجرّب طرائق وأساليب عديدة، انطلاقاً من هذه المراقبات([21])ومن رواد هذه المدرسة "هربارت"([22]) (1776-1841م) الفيلسوف التربوي الألماني، والذي اشتق من الفلسفة مبادئه التربوية، كما اشتق أهداف التربية من الأخلاق. وترى هذه المدرسة أن النماء لا يكون إلا بالتفاعل المتواصل بين النامي ومحيطه، وبالتالي فإنها توجهت إلى التربية الفردية مباشرة. وسارت على خطى التربية الطبيعية القائلة بأن تنشئة المتعلم يجب أن تكون من داخله وليس بتدخل خارجي، وأوجبت ضرورة التعرف على إمكانات المتعلِّم وقدراته واستعداداته وميوله. فالغرض الأساسي من التربية – عندهم هو تنمية الاتجاه إلى تفضيل ما يجعل "الحرية الباطنية" حقيقة واقعية راسخة في نفس الفرد. وذلك عن طريق وسائل ثلاثة هي:
1- التجربة.
2- الاختلاط بأفراد النوع الإنساني.
3- التعليم.
واهتم هاربارت بتبيان الفضيلة الشخصية الخلقية وتحليلها. ورأى أنها مبنية على مبادئ خمسة هي: 1-الحرية الباطنية ، 2-حرية الإرادة، 3-المهارة العملية، 4-الميل إلى عمل الخير، 5-العدالة.
وبعد ذلك جاء فروبل([23]) الذي ابتدع لتطبيق مبادئ هذه المدرسة رياض الأطفال. وأنشأ أول روضة سنة 1837، وألح على التعرف بالولد عن طريق المراقبة المنظمة المستمرة. وتبعه براير (1842م-1897م) وهو، سيكولوجي ألماني، راقب ولده منذ الولادة، ونشر كتابه المعروف بعنوان (عقل الولد).([24])
وهذه المدرسة تطوَّرت إلى يومنا هذا في بعض اتجاهاتها وخاصة في مسألة دراسة وظائف الدماغ، واكتسابه المعلومات، وعلاقة تركيب الدماغ بالميول والصفات الشخصية... إلخ.
إن الإفراط الواضح في التربية الفردية، يفضي في هذه المدرسة إلى دراسة كل طفل بشكل مستقل. وهذا يلزم أن نفرِّغ عالماً لكل طفل، وبالتالي تحمل هذه المدرسة في طياتها إهمال الصفات الإنسانية العامة، وتصلح لمجتمع تكدست فيه الأموال والإمكانات ولو على حساب الشعوب الأخرى. أما مسألة أن تصبح الحرية الباطنية حقيقة عن طريق التجربة والتفاعل والتعلم، فالوسائل هذه لا هوية لها، ولكن أن يترك الطفل على سجيته ليكتشف ما يمكن أن يكونه من نماذج بشرية، فهذا مخالف لأصل من أصول التربية الإسلامية الداعي إلى بذل الجهد في تربية الولد. وإن كان متفقاً مع ظاهر قوله تعالى ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 91/ 7، 8، 9، 10] فلم يقل أحد من المفسرين بترك الولد لذاته يطلب التزكية ويتجنب التدسية. بل تؤكد آيات أُخر على ضرورة التدخل ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً.... ﴾ [التحريم: 66/6 ] وقوله تعالى ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ ﴾ [الشورى: 42/15]
ز- مفهوم التربية في المدرسة العلمية:
أصبحت التربية مع هذه المدرسة مطلع القرن التاسع عشر، أقرب إلى جوهر العلم. وظلت تركض متسارعة حتى صارت علماً له أصوله ومبادئه وطرقه المستمدة من الملاحظة والتجريب، وتوسل الطرق العلمية.
واحتلت دراسة العلوم الطبيعية، ونتائج الاكتشافات العلمية المرتبة الأولى في مناهجها. وكذلك استخدمت وسائل رياضية علمية في عملية تقويم التحصيل عند المتعلمين. وطبيعي أن تتأثر الفلسفات التربوية بما سبقها، ويلاحظ المطالع لهذه المدرسة مدى تأثرها بالمدرسة الطبيعية القائلة: إن التربية الحقة لا تتأتى إلا عن طريق دراسة مظاهر الطبيعة وتنمية قوى الإنسان الطبيعية، وهذا ما كان ينادي به (روسو)، والقائلة أيضاً بضرورة تدريب الإدراك الحسي الذي نادت به الحركة الحسِّية الواقعية. إن هذه المبادئ والمفاهيم التربوية السابقة اتخذت منحى تكاملياً أو تضافرياً مع الكشوفات العلمية مشكِّلة هذه المدرسة الجديدة. وهناك عوامل أخرى ساعدت في تطور هذه المدرسة، إضافة إلى تطور الحركة العلمية، من مثل: تغير الأوضاع السياسية، والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وبالتالي تغير نظرة الناس إلى وظيفة التربية في الحياة، حيث أقلع الناس عن الدراسات الكلاسيكية الإنسانية التي ظلت مسيطرة على مناهج الدراسة في المدارس والكليات.
وسنجمل أهم مميزات هذه المدرسة، وذلك نظراً لاختلاف أتباعها في أفكارها الجزئية فحسب، وتنوع مصادرها وطرقها، محاولين عرضها بإيجاز، ومنها:
1. أنه عن طريق العلوم الحديثة يمكن تحقيق حياة كاملة للفرد. وينعم برفاهية ينعم بها مجتمعه أيضاً.
2. نبذ الدراسات الكلاسيكية القديمة، حيث لا تمت بصلة إلى حياة الناس العملية.
3. تعظيم أمر الطرق القائمة على التجربة والملاحظة، باستخدام الطريقة الاستقرائية.
4. وجوب اشتمال مناهج الدراسة، في مختلف سنوات التعليم على مركز لائق للعلوم الطبيعية.
ولا شكّ أن هذه المدرسة في إعلائها من شأن النتائج العلمية، كانت تستجيب لحاجة الناس على المستوى الاقتصادي الذي بات مرتبطاً بالمعطيات العلمية، فالصناعة بتقدمها وتطور إنتاجها هي عالة على الحركة العلمية وجهودها. وبالتالي فإن حياة الناس ارتبطت من حيث أنماط العيش والرفاهية المنشودة بنتائج البحوث العلمية، وصارت الشركات والمصانع تسهم في دعم الجامعات والمراكز العلمية، وهذه بدورها تزود تلك، فعظم أمر العلوم الطبيعية التطبيقية. واحتفل بها المربون حتى قصروا التربية عليها، وبالغوا في تعظيم شأن العلوم التطبيقية المخبرية حتى صار معها الإنسان وقواه النفسية تبحث من وجهة نظر علمية مادية بحتة، حتى وصلوا إلى ما يسمى بعلم النفس التجريبي([26]).
ومرة أخرى نعيد السبب في نتائج هذه المدرسة والذي جاء قاصراً في مجالات إنسانية عدة، إلى سوء فهم إنسانية الإنسان وإلحاقه بالمادة، ودراسته على أساس أحادي التكوين، أو قل على أساس إهمال ما لا يقع تحت الحس، ولا يمكن دراسته دراسة مخبرية. وبالتالي تورم الجانب المادي في الإنسان على حساب ما ليس مادياً فيه، فكثرت مشكلاته وضل طريق سعادته. وهذه المدرسة إن استطاعت أن تجعل حياة الفرد حياة عملية ناجحة فإنها أخفقت في أن تحقق له حياة ترفل بالسعادة والأمن الجواني الذاتي.
وإنَّ الفكر القادر على توظيف هذه المعطيات العلمية، في بناء إنسان متوازن، من حيث قوى الشخصية الإنسانية، هو الفكر الإسلامي الذي يرفع من شأن العلوم، لكنه لا ينسى أنها نتاج إنساني.
ح- مفهوم التربية في المدرسة الاجتماعية:
إنَّ المرتبة التي احتلتها كلّ من المدرستين النفسية والعلمية في القرن التاسع عشر، وما كان لهما من نتائج في المجال التربوي، وخاصة الاحتفال بطبيعة الطفل، والاستجابة لخصائصه النفسية، وحاجاته على المستويين الجسدي والنفسي، وبالتالي بما حظيت به الطرائق والأساليب من اهتمام زائد، كذلك في المقابل حظي المنهج ومواد التعليم، وبخاصة العلوم الطبيعية البيولوجية وغيرها، من علوم جغرافية في المدرسة العلمية. لكلّ ذلك، كان لا بد من ظهور حركة تتوجه بالاهتمام إلى المجتمع، لتعطيه الاهتمام اللازم. وبالتالي تعنى بتربية الفرد تربية اجتماعية. فكانت هذه المدرسة التي برزت مستقلة قوية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقادة هذه المدرسة يركزون جهودهم في جعل التربية عملية نمو للمجتمع وإعداد للفرد في الوقت نفسه ليسهم في بناء وطنه، اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً. والناظر إلى هذه المدارس الثلاث النفسية والعلمية والاجتماعية يرى بوضوح أن الأخيرة اشتملت على خصائص المدرستين السابقتين، واعتمدت عليهما معاً. ولا يبدو الاختلاف إلا في التركيز على بؤرة اهتمام محددة. وهي العناية بالمجتمع، والتي جاءت في المدرسة الاجتماعية رداً على ضمور أو تلاشي الاتجاه الاجتماعي لصالح الفرد.
إذاً هذا هو السبب الرئيس الذي يكمن وراء ظهور هذه المدرسة. وهناك مؤثرات وعوامل أخرى نلحظ من أهمها:تأثير "روسو" الذي نادى بأنَّ أفراد المجتمع يجب أن يتدربوا صناعياً، حتى يتسنى لهم أن يساعدوا أنفسهم، وأن يتعلموا كيف يكونون كرماء أسخياء ومتجاوبين عاطفياً مع بني وطنهم وجنسهم، ومن ثم، فإنَّ التربية أصبحت بجهوده أقرب إلى الرفاهية الإنسانية.([27])
أ- وكذلك كان لكل من" بستالوتزي" و "هربارت" و "فروبل" تأثير بارز في هذه المدرسة. فرغم اهتمامهم البالغ بطرائق التعليم، فإنهم لم يجدوا بداً من العناية بالتربية الاجتماعية، وذلك استجابة لتطور ظروف الحياة وحاجات العيش. فالمؤسسات أخذت تتمركز والمصانع تتوسع، حتى صار بعضها يضم الآلاف. إذاً رأى هؤلاء أن يتوجهوا في تربيتهم إلى الجانب الاجتماعي في الكائن البشري. فالتربية أصبحت عند " بستالوتزي" عملية ترقية المجتمع، والوسيلة لهذه الترقية في الوقت نفسه. وهي عند "هربارت" التآلف بين ما هو فردي وما هو جماعي. إلا أن جهوده انصبت على الطريقة التي يمكن بوساطتها تحقيق أغراض التربية وأهدافها. وكان يرى أن المنهج المعتمد، يجب أن يمثل للطفل خلاصة الحياة في الماضي أكثر من أن يكون مجرد أداة لصقل ذهنه. وهذا يعني أن مفاهيم الحياة الماضية ومعطياتها توظف في مواقف الحياة الحاضرة بنشاط اجتماعي بارز.
أما عند "فروبل" فقد أصبحت التربية هي المنهج الذي يقدم للطفل خلاصة الحياة مصبوغاً بالصبغة الاجتماعية. وظل هذا المنحى الاجتماعي يسير متعاظماً حتى أيامنا هذه. وظهرت أبحاث كثيرة في ميدان عملية "التأنيس" التي تعنى بجعل الكائن البشري اجتماعياً([28]).
ج- الأحداث التي جرت في القرن الثامن عشر: فقد شهد هذا القرن ثورتين، هما الثورة الفرنسية، والثورة الأمريكية، بما حملتا من صراع ضد الإقطاع والطبقية والاستبداد السياسي والاجتماعي. وما رافق ذلك من بروز مفاهيم الديموقراطية وبالتالي بروز الحاجة إلى تقنيات وتشريعات لحمايتها، بعد اعتمادها طريقة في الحياة، فكانت التربية الظهير الأقوى لحماية المنجزات السياسية والاجتماعية، في عملية الصراع مع قوى الاقطاع،والكنيسة، ولا بد إذاً للتربية من أن تتسلح بسلاح الجمهور وما يريده في وجه القلة الإقطاعية. فالاهتمام بعنصر الكثرة لا بد أن يكون له حضوره في التربية الاجتماعية ذات المنحى الديمقراطي، إذاً جاءت التربية الاجتماعية لتخدم التوجه الديمقراطي الذي بدأ يتبلور كمنهج في الحياة، يشمل كل جوانبها ويعمل للسيطرة على كل مفاصلها، ويكفي دليلاً على ما تقدم، ما عبر به "توماس جفرسون" [1743م-1826م].
[ 1743 – 1826] وهو أحد أبرز رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية إذ اعتبر أن التربية هي الحارس الأول للديمقراطية والعامل الأساسي في تطويرها وازدهارها([29]).
والناظر إلى منطلقات هذه المدرسة التربوية لا يجد فيها شيئاً خاصاً بها، وإنما هي جمع وتوليفٌ بين منطلقات مدارس سبقتها قد أعادت صياغتها في مفاهيم تربوية، مركزة على الجانب الاجتماعي في تربية الطفل، أو قل أقامت توازناً بين الفردي والجماعي، إلا أن البارز هو خط سيرها وتطورها، ومن ثم تطويعها لتصبح خادمة للديمقراطية.
أما من حيث مرجعيتها فهي خاوية الوفاض، بمعنى أنها تلتزم مبادئ وقيماً ومفاهيم، ومن ثم أهدافاً نابعة منها، وفي ضوء هذه وتلك، تتوسل طرقاً وأساليب منسجمة مع المنطلقات والأهداف. بل تترك حركة المجتمع تتطور وفقاً لمصالح هذا النظام السياسي الديمقراطي الممسوك جيداً من قبل الشركات والمؤسسات الكبرى، وغاية جهدها، أن تصوغ التربية ووسائلها وفقاً للقيم المستجدة الناشئة التي تدور في فلك تلك المؤسسات. لذلك نرى اليوم كيف تتسارع القيم وتتغير وتتبدل وتتولد. وليس ذلك إلا بسبب غياب المرجعية، واتباع الهوى ومصالح تلك الفئة، حتى باتت المجتمعات الغربية على ما فيها من تقدم صناعي مذهلٍ وتطور زراعي ومنتج، تعاني تفككاً على الصعيد الاجتماعي، وقلقاً وتوتراً على الصعيد الفردي. فكم من تلميذ هاجم زملاءه ومعلميه فأرداهم قتلى. وكم وكم من آفات اجتماعية وسياسية تعاني منها تلك المجتمعات. ويكفي أن تعلم أن هناك وحدة قياسية مستحدثةً هي ساعة الجريمة، حيث ترصد أنواع الجرائم من قتل واغتصاب وسرقة و…. و…. في الساعة([30]).
وإنني أرى أن الحروب التي يقودها الغرب بقيادة أمريكا على الدول والشعوب المستضعفة، ما هي إلا نتاج هذه التربية التي لم تعد قادرة على اللحاق بالقيم المتولدة، وليس بإمكانها أن تعود إلى الوراء، لتبحث عن مرجعية تحتكم إليها في ضبط إيقاع الحياة المتسارع. فكان الحل أن يتماسك الداخل بغزو الخارج، أي بإيجاد قضايا يجتمع الناس حولها.
وهكذا نرى أن الفرد في هذه المدرسة فقد ذاته، وذاب في الجماعة ولكن دون إرادة منه، ذلك أن الحكومات المتربعة على عرش السلطة بآلية الاستفتاء الشعبي، هي المتحكمة والموجهة للمزاج الشعبي العام، بآليات قد تكون أكثر دكتاتورية، يتمتع بها الذين يقودون معركة الاستفتاء. وذلك يبدأ بالإمساك بالمناهج الدراسية وبث القيم التي توصل إلى مثل هذه النتائج([31]).
([16]) نابليون بونابرت [1769م-1821م] ولد في أجاكسيو. إمبراطور فرنسا من سنة 1754 حتى سنة 1815م. اشتهر بانتصاراته في أوستر لتز وفريدلاند. عُزل سنة 1814. انزوى في جزيرة إلبا. ثم عاد إلى باريس بعد شهور قليلة فتحالفت أوروبا ضدّه وهُزِم في معركة واترلو سنة 1815م. وبعدها نُفي إلى جزيرة القديسة هيلانة وتوفي فيها. والجدير بالذكر أنه قاد حملة على مصر (1798-1799م). (نقلاً عن منجد اللغة والأعلام: ص: 567).
([20]) هو هنريك جوهان، بستالوتزي؛ (1746م-1827م) مربٍّ سويسري قدّم نظرية في تنمية الطفل، حيث أبان أن الطفل يمكن أن يتعلم فحسب ما هو قادر على معرفته، وله طريقة مفادها وجوب تحليل المادة التعليمية في كل مجال إلى أبسط عناصرها، وإتقان التلامذة لهذه العناصر قبل عملية البناء والتركيب. (نقلاً عن معجم المصطلحات التربوية لجرجس، ميشيل؛ وحنّا الله، رمزي: ص: 279).
([23])هو، فردريك فروبل (1782م-1852م) مفكر تربوي ألماني، أسس مدارسه الخاصة بالأطفال، وكذلك كلية تدريب للمدرسين، ابتكر وسائل تمكّن التلاميذ من التعبير عن أنفسهم بعفوية. انتشرت أفكاره التربوية في أوروبا وأمريكا وتأثر بها الفيلسوف جون ديوي. (نقلاً عن معجم المصطلحات التربوية، لجرجس، ميشيل؛ وحنّا الله، رمزي: ص: 190).
([26]) لكن النقَّاد الإسلاميين - في مجال علم النفس - يرفضون استخدام المنهج التجريبي بل يعتبرونه كذبة كبرى، لأنَّ النفس ذاتٌ كلية ولا يمكن تشريحها تحت المجهر، وهي بالتحليل والتشريح شيءٌ آخر غير النفس المطلوب فهمها. والنفس بطبيعتها تتقلَّب وتستعصي على التجريب. ويرون أيضاً أنَّ ما فعله علماء النفس المتأخّرون بعد فرويد - أسوأ - ولقد أخرجوا هذا الإنسان من بيئته الطبيعيَّة وأدخلوه المعم بما يعرف الآن بعلم النفس التجريبي. (عن أبو حطب، فؤاد؛ أبحاث ندوة علم النفس، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، القاهرة: 1989، ص: 149 بتصرّف).
كتب معادلة كلية الهندسة جامعة القاهرة
ReplyDeleteمركز النور المتخصص في معادلة كلية الهندسة يهدف لتأهيل طلبة المعاهد والدبلومات لاجتياز اختبارات وامتحانات معادلة كلية الهندسة ويوفر للطلبة الشرح و اهم كتب معادلة كلية الهندسة جامعة القاهرة
للاتصال علي 01118585670
http://www.eng-elnour.com/
احصل على كتب معادلة كلية الهندسة
ReplyDeleteافضل شرح فى معادلة كلية الهندسة من مركز النور اشهر مركز متخصص فى تدريس معادلة كلية الهندسة فهو يقوم بتوفير كتب معادلة كلية الهندسة لكل طالب
اتصل بنا على :01093189974
www.معادلة-كلية-الهندسة.com/