الفصل
الثالث
التربية :
مفهومها وأبرز مدارسها
|

سنسير في الفصل الثالث هذا، سيرنا في الفصل الأول، فنبحث عن معنى التربية في المعاجم، ومن ثَم ندرس معنى التربية اصطلاحاً، ونعرض لها عبر تطورها التاريخي، وبعد ذلك نحاول بيان حدود التربية إسلامياً، موظِّفين معطياتِ الجذر اللغوي وما تزوِّدنا به المعاجم من لوازم ومعانٍ تُلقي بظلالها على المعنى الاصطلاحي.
المبحث الأول: التربية لغة:
وسننهج في البحث عن معنى التربية في المعاجم، النهج الذي سار عليه المعجميُّون أنفسُهم، إلى جانب الاستنارة بمنهج علماء فقه اللغة. لذلك سنعتمد في دراسة معاني "التربية" على تجريدها من الأحرف الزائدة فيها وهي "تاءان" واحدة مبسوطة في أولها، والثانية مربوطة في آخرها "تربية"، فيبقى ثلاثة أحرف (ر- ب-ي). والأصل عند بعض علماء العربية وخاصة في مباحث فقه اللغة إرجاع الكلمات إلى صوتين، ثم البحث عن معنى أصيل لهما معاً. ثم إنهم يدرسون بُعْد هذا المعنى الأصلي الذي سيظل مضيئاً المعانيَ الجديدة التي تدور حوله. وذلك مثل معنى الحرفين (ق-ط) (1)، اللذين يفيدان معاً: القطع والانفصال بسرعة عرْضاً.
فمهما أضفت إليهما من حروف لتشكّل كلمات أخرى فإن هذا المعنى (القطع والانفصال) سيظل ماثلاً حاضراً فيهما، كقولك: (قطف – قطع – قطر – قطم – قطب). لذلك فإننا سندرس المعنى الأساسي للحرْفَين: (ر) و (ب) أولاً ثم ندرس المفردات التي تتشكّل من زيادة حرف ثالث عليهما.
ورد في معجم "مقاييس اللغة" لابن فارس، عن (الراء والباء) أنهما معاً يُفيدان:
أ- رعاية الشيء: والرعاية يلزمها وقت، ومصاحبة، والراعي لا بدّ له من علم بأحوال ما يرعاه.
ب- إصلاح الشيء: والإصلاح لا بدّ فيه من ملازمة المصلَح، والإقامة عليه، ولا بدّ للمصلِح من علمٍ بأحوال ما يصلحه، ودِراية في طرائق الإصلاح.
ج- ضم الشيء إلى الشيء: وهذا لا يمكن إلا إذا علمنا طبيعة المضموم إلى المضموم إليه حتى لا نضمَّ خلاً إلى عسلٍ فنُفسده.
فمن مستلزمات هذه المعاني الثلاثة كما ترى: العلم والدراية – المصاحبة زمناً. ولنترك ابن فارس يوضّح لنا بأمثلة من عنده ما فهمناه من منهجه العام وفي هذا الموضوع خاصة:
يقول ابن فارس: الراء والباء يدلُّ على أصول: فاعتبرهما واحداً فلم يقل: يدلاّن- فالأول: إصلاح الشيء والقيام عليه، فالرَّبُّ: المالك والخالق والصاحب، والرّبُّ: المصلح للشيء … إلخ. والثاني: لزوم الشيء والإقامة عليه وهو مناسب للأول. والأصل الثالث: ضمّ الشيء للشيء وهو أيضاً مناسب لما قبله(1).
وجاء في "لسان العرب" مادة ربع(2) ، رَبَعَ بالمكان رَبْعاً،أقامَ. والرَّبْع هو الوطن وأهل البيت، والعرب تُطلق على الخريف، الربيعَ، لأن الثمار تنضج فيه. وتسمّي الذي يلي الشتاء ربيعاً، لكثرة الكمأة والنَّور.
ومن معاني الجذر:
( ر – ب – أ ): اطلَع. فنقول: ربأ القوم يربؤهم أي: اطَّلع لهم على شَرَف، أي مكان مرتفع. ويربأ أهلَه: أي يحفظهم من العدو. ورابأ: راقب، واتقى. وأربأ: رفع(3).
( ر – ب – ح ) يفيد الزيادة، قال صاحب لسان العرب(4): الرِّبْح والرَّبَحُ والرَّباحُ: النماء في التَّجْر.
( ر – ب – ط ) من دلالاتها: الملازمة والمُكث الطويل، ومنه: الرِّباط، والمُرابطة: أي ملازمة ثغر العدو. والرباط: المواظبة على الأمر.
وقال في تفسيره قولَ الرسول صلى الله عليه وسلم: "أَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ"([1]) أي أنَّ المواظبة على الطهارة والصلاة كالجهاد، وفي قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون ﴾[آل عمران:3/ 200] أي أقيموا على جهاده([2]).
والآن سنعمد إلى المعاجم نسألها عن معنى التربية متخذين في البحث عنها الحرفين (ر) و (ب) منطلقا. لذلك سنبحث عن (ر – ب) + (ا) وَ (ر – ب) + (ب) وَ (ر – ب) + (ي).
ومن المفروض حسب قواعد الصرف التي بُنيت عليها بعض المعاجم العربية أن نعود في (ربا) إلى الجذر (ربو)، ذلك أن هذه الألف مقلوبة عن واو. فقد جاء في الصِّحاح: (ربا الشيءُ ربواً، أي زاد. والرابية، والرَّبْوُ، هو ما ارتفع من الأرض. والرَّبو: النَّفَسُ العالي. وقال في قوله تعالى:﴿ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً ﴾ [الحاقة:69/10]، أي زائدة([4]).
وجاء في لسان العرب([5]): ربا الشيءُ، رُبُوّاً ورباءً، زاد ونما، وأربيتُه، نمّيته، وفي التنزيل: ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَات ﴾[البقرة: 2/276]، ومنه أُخذ الربا الحرام، قال تعالى: ﴿ مَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّه ﴾[الروم: 30/39]. وَالروابي ما أشرف من الرمل تنُبت أجودَ البقل. وأربى على الخمسين ونحوها، أي زاد. والرَّبْو، تواتر النَّفس.
ونجد في معاني الجذر (ر – ب – بَ)([6]) والربُّ: اسم من أسماء الله عزوجل، ولا يُقال في غيره إلا بالإضافة. ويُطلق على: المالك - السيِّد – المدبِّر – المربِّي – القيِّم – المُنعِم والمُصلح.
ويُقال: رَببْت القوم: سُسْتُهم، وربَّ الضيعةَ، أصلحها وأتمَّها، وربَّ فلانٌ ولده يُربِّي، وربّبه، وتربَّبه، أي ربَّاه. وفلانٌ مُربٍّ، أي مَجْمَعٌ يجمع الناس. وقال: ربّاه تربيةً، وتربَّاه: أحسن القيامَ عليه، ووليه حتى يفارق الطّفوليَّة، كان ابنَه أم لم يكن. وأربَّتِ السحابة: دام مطرها. وأربَّتِ الناقة بولدها: لزمته وحبته. وأثبَت لحسان بن ثابت([7]) رضي الله عنه: [من البحر الكامل]
ولأنتِ أحسن، إذ بَرَزْت لـنا من درَّة بيضاءَ صافيــــةٍ | | يوم الخـروج بساحة القَصر مما تربَّبَ حائـــرُ البحـرِ |
أي الدرَّة التي يربّيها الصدف في قعر الماء.
وقال بعد أن شرح مفردات كثيرة من الجذر (ر – ب – بَ) جاءت في أكثر من تسع صفحات: وكلّ هذا من الإصلاح والجمع. وأثبَت لابن الأنباري أنَّ الرَّبَّ ينقسم على ثلاثة أقسام:
يكون الربُّ بمعنى المالك: ﴿ربُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾[مريم: 19/65]
﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 6/164].
يكون الرَّبُّ بمعنى السَّيِّد المُطاع: ﴿فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً ﴾ [يوسف: 12/41].
يكون الرَّبُّ بمعنى المُصلح:﴿ رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [الشعراء:26/83].
أما الجذر (ر – ب – ي) فنجد من معانيه: نشأ، وترعرع، وتغذّى([8]). وقد نقل ابن منظور هذه المعاني عن ابن الأعرابي([9]) وأثبت له: [من البحر الوافر]
فمَنْ يكُ سائلاً عني فإني | | بمكَّة منزلي وبها رَبِيتُ |
| | |
وربَّيْتُ فلاناً أُربِّيه تربية وتربَّيْتُه، وربَبْته وربَّيْته بمعنى واحد(2) ونلاحظ كيف التقى الجذران (ر – ب – بَ) وَ (ر – ب – ي) في دلالة واحدة ومعنى مشترك. وهذا ينسجم مع ما انطلق منه المعجميّون من أن معنى الحرفين الأوَّلين في الجذر يُلقي بظلال معانيه على كل المفردات التي تشترك فيهما.
ونخلص الآن إلى رصد المُستلزمات الدلالية للجذور الثلاثة التي ترجع كلمةُ (تربية) إليها معاً. ونُثْبِت منها دون أن ندَّعي حصراً لها.
1.المحافظة على الشيء ورعايته.
2. إصلاح الشيء.
3. الجمع والضمّ.
4. الزيادة والنّمو.
5. الارتفاع والرفعة والترفّع.
6. التواتر والاستمرار.
7. الإقامة وطول المُدَّة.
8. السِّيادة.
9. التغذّي، الغذاء.
10. المصاحبة، والعيش، (ربيَ في بني فلان أي عاش معهم وصحبهم طويلاً).
إذاً هذه المعاني كلُّها من لوازم التربية. فلا تكون تربية الإنسان أو الحيوان أو النبات إلا إذا:
1. صحبناه وعشنا معه.
2. وغذيناه.
3. ورعيناه وحافظنا عليه.
4. ثم زاد ونما.
5. وبعد ذلك جمعنا لأجله وضممنا له ما يحتاج إليه.
6. وراقبناه وأصلحنا من شأنه. وكلُّ ذلك لا بدّ فيه من:
7. الإقامة وطول المدّة. ولا يُستغنى فيهما عن:
8. التكرار والتواتر.
9. فإذا تحقّق للإنسان كلُّ هذا ساد. وكان جديراً باستخلافه في الأرض ليعمرها بالخير والعدل، طاعةً للسيِّد المُطلَق ربِّ العالمين، وأنَّى لهذا أن يتحقَّق بغير علم ودراية؟!
ومما تجدر الإشارة إليه، اشتراك دلالات الجذر (ق – و – م) مع دلالات الجذور الثلاثة التي تزوِّد معاً كلمة التربية بها. ومنها – الرِّفْعة والسّمو – والدوام والإقامة على الشيء – والاصطلاح والرِّعاية، والالتزام. مما يشير إلى أنَّ الكثير من مستلزمات القيم هي عينها مستلزمات التربية. فكأنَّ القيم لا تكون إلا تربوية، والتربية لا تكون إلى على القيم. ولو أن المقام يسمح لاستعرضت دلالات معاني (الإسلام) و(الإيمان) و(الدِّين) في محاولة للوقوف على مدى اشتراك دلالاتها معاً من جهة ومع التربية والقيم من جهة أخرى.
واستعرضت ما حضرني من معاني التربية وأساليبها وأساسياتها، في كلِّ ما قرأت وخبرت من نظريّات وفلسفات تربوية، فلم أجد شيئاً منها لا يمكن إدراجه تحت واحدةٍ من هذه المعاني.
فلله درُّ هذه اللغة؟؟ كيف تقودك بِنْيةُ ألفاظها بخصائص حروفها إلى كلِّ مستويات الدلالات. فإنه – والله- لأمرٌ يأخذ بالألباب ويُشغل العقول. أليست لغة الكتاب، معجزةَ أكرم رسول صلى الله عليه وسلم؟!
وإن خلاصة هذه المعاني قد فهمها العلماء الأفاضل من سلفنا الصالح، وتمثَّلوها في حياتهم، فكتبهم زاخرة فيها، وحياتهم عامرة بها. استخلصوها من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فهذا سيِّدنا موسى عليه السلام يسأل الرجل الصالح أن يتبعه ليتعلَّم منه ﴿ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدا ﴾ [الكهف: 18/66] فَصَحِبه وتعلَّم منه. ولا يغيب عن بالنا أن المعلِّم الحقيقي هو الله عزوجل ﴿وما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرا ﴾ [الكهف: 18/82]. وهؤلاء الصحابة وعلى رأسهم سيدُنا أبو هريرة رضي الله عنه، لزِم الرسول صلى الله عليه وسلم فحفظ عنه، واعتنى عليه الصلاة والسلام بتربية أجسادهم وعقولهم وقلوبهم، في مواقف مختلفة يصعب حصرُها. حتى كان كلٌّ منهم جامعة بحالها. وسار هؤلاء على نهجه، فكان لأمتنا رجالٌ في كل مِضمار يتمثَّلون معنى الرّبوبية في حياتهم. فالرَّبُّ – كما يقول الراغب الأصفهاني – في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حدِّ التمام(1).
المبحث الثاني: التربية اصطلاحاً:
استناداً إلى ما توصلنا إليه من معان لغوية لمفردة التربية، وانطلاقاً من إجابات المفاهيم الإسلامية على الأسئلة الإنسانية التي تشغل بال المربِّين والمفكِّرين والفلاسفة من مثل: ما غاية الوجود؟ ماهية الإنسان؟ ما دوره؟ ما مراحل حياته؟ وما علاقته بربّه؟ وبنفسه؟ وبأبناء جنسه؟ وببيئته؟ وَيمكننا أن نصوغ تعريفاً للتربية يأخذ بالحُسبان كلَّ ما تقدَّم. ولكن حتى لا نخالف في بحثنا عن مفهوم التربية، ما انتهجناه في بحثنا عن مفهوم القيمة، فإننا سنعرض لمفهوم التربية بشكل عام، منذ اليونانيين إلى أيامنا هذه، من خلال تعريفاتها معلِّقين بما يلزم، ثم نصل إلى بسط تعريفنا الذي توصَّلنا إليه.
وبين يدي البحث، نؤكد أن المفاهيم والمصطلحات بشكل عام، ونخص منها ما كان له علاقة ببناء شخصية الفرد، وبالتالي في بناء هوية الأمة، وحتى المفردات والعبارات المستخدمة في التواصل الإنساني اليومي مثل: إلقاء السلام، وعبارات المُجاملة واللياقة، كلُّ تلك المفاهيم والمصطلحات نعتبرها صفحة أساسية في بنية السِّفْر المعرفي الخاص بكلِّ أمَّة، ومِدماكاً لا يمكن الاستغناء عنه في بناء الصّرح الثقافي للأمم. إذاً فالمفاهيم والمصطلحات ترتبط ببيئتها الجغرافية، والعقَدية والحضارية والتاريخية ومنها السياسية بشكل خاص. وكلّ ذلك يعبِّر عن مدى التماسك الفكري، والانسجام بين الانتماء من جهة، وبين السلوك والممارسة من جهة أخرى.
ولذلك نجد أن القرآن الكريم نهى المؤمن – ولم ينه كافّة الناس – أن يستخدم مصطلحاتٍ لها دلالات منتمية إلى مجتمعات يلتزم أبناؤها بعقائد وقيم ومفاهيم لا تنسجم مع تلك التي يلتزم بها المسلمون. فقال عزَّ وجل﴿ لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا ﴾ [البقرة: 2/104]. والمستقرئ لأنواع الخطاب القرآني وأساليبه يقف على خصوصية في هذا المجال غاية في الدِّقة. ونشير إلى احتفاء القرآن الكريم بمسألة المصطلحات والمفاهيم حتى داخل البيت الإسلامي، ففرَّق بين مصطلح الإسلام وبين مصطلح الإيمان، رابطاً الإيمان بالقلب وما يعنيه من ثبات ونية والتزام وعزم. قال تعالى ﴿قالتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ [الحجرات: 49/14]، وقال تعالى أيضاً: ﴿ وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 2/58].
إذاً، فالقضية ليست مجرَّد ألفاظ أو عبارات، بل هي حافلة بالسِّمات والدلالات، فكما أنَّ الحجاب والجلباب واللحية ودخول المسجد يشير إلى انتماء ولو بالشكل، فإن استخدامك للمصطلح يشير إلى انتمائك، وقد يكون هنا بالجوهر. حتى إنّ أسماء الأعلام التي نطلقها على أبنائنا وبناتنا، فقد وقف منها الرسول صلى الله عليه وسلم موقفاً ينسجم مع الكليَّة الإسلامية، فقد رغَّب صلى الله عليه وسلم بأسماء ونهى عن أسماء([11])، وقد ربط بعضُ العلماء بين الاسم وصفات صاحبه([12]).
فإذا كان هذا في الأسماء العادية، فكيف في المصطلحات والمفاهيم؟ وكيف إذا كانت التربية بالذات؟ وهي التي أُوكلت لها أمور الفرد والجماعة، وأحوالهم في الدنيا،حيث ترتبط أعمالهم وأقوالهم بنوع تربيتهم ولا شك أن لذلك أثراً في الآخرة. ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ﴾ [الزلزلة 99/ 7].
ويطالعنا العديد من الباحثين المسلمين في مجال بحثهم عن تعريف للتربية أن آراء العلماء متباينة، وأن مصطلح التربية مُحدَث، ويؤرِّخون لظهوره في المعاجم الغربية، فيحدّدون نقلاً عن علماء الغرب– أن أول ظهور له في معاجم اللغة الفرنسية كان سنة 1527م([13])
ويضرب آخرون في أعماق الزمن بحثا عن تعريف أفلاطون، ويدَّعون أن أسبق تعريف للتربية هو ما أدلى به أفلاطون([14]). ويزيد البعض الآخر أن تحليل مصطلح التربية أمرٌ صعب، وألحقوا التربية بالفكر الفلسفي، وقالوا: إن الفلاسفة منذ عهد سقراط قد أخطأوا في اعتقادهم بإمكانية تحديد صيغة أو عبارة معيّنة يمكن أن تفسِّر بصورة نهائية مفاهيم مثل: (العدالة) وَ (المعرفة) وبالتأكيد التربية(5). ونحن إذ نشكر جهودَهم تلك وندعو لهم بالخير، نوجّهُ عنايتنا في بحثنا هذا إلى ضرورة الانطلاق من بيئتنا بما فيها من تراث علمي وثقافي ومعرفي، مما حملته لنا لغة القرآن الكريم وصدور أهل العربية وألسنتهم. ونحن في بحثنا عن مفهوم التربية لن نديرَ ظهرنا لما قاله علماء الغرب المعاصرون على اختلاف تخصصاتهم، ولن نُعرض عمّا توصَّل إليه الفلاسفة الأقدمون، ولكننا في كل هذا نقف على أرض ثقافتنا وحضارتنا، متمسّكين بمفاهيم ديننا الحنيف، ندرس ما عند الآخرين، ونقارنه بما عندنا، ونحاور الآخر ما كان ذلك ممكناً وفي خدمة الإنساينة. ولكن وفق مبادئ الحوار المُجدي، والتي أوّلها ضرورة الاتفاق على المنطلقات والأصول، لمنقاشة المختلَف فيه من الأمور الأخرى. فلا يدخل ضمن دائرة الجدوى والفائدة أن نناقش مُلحداً لا يؤمن بوجود خالقٍ بأي قضية تحت هذا السقف.
ومن نافلة القول: إنَّ القضايا المهمّة التي تحتلّ حيزاً كبيراً في حياة الأمم، هذه القضايا التي تعيش ما عاشت الأمم، تحفل كلَّ يوم بزيادة، من جرّاء تراكم المفاهيم وتداخل الثقافات، مما يجعل المصطلحات تعاني من تعريفات فضفاضة. والتربية أحد أهم هذه القضايا. وكأني بها الطاحون الذي يجتمع فيه الحب من هنا وهنالك. أو هي المحيط الذي تأتي إليه مياه الأنهار والمتساقطات بغثائها وزبدها. فالتربية مسرح النشاط البشري بأكمله، ويريد صاحب كلِّ فن أو عِلْمٍ أن يطبعها بطابعه، شأنها في ذلك شأن مفهوم القيمة أيضاً.
وفي هذا المجال، يذكر الدكتور سعيد إسماعيل على أن ما قد يبدو (اختلافاً) إنما هو نتيجة تغاير لفظي من حيث الصياغة، وفي أحسن الحالات فهي (زوايا رؤية). ثم يفسّر لنا سبب ذلك، بأنه اختلاف الاختصاصات. فهذا مُتخصص بـِ (البيولوجيا) وذلك بـ (علم النَّفْس) وآخر بـِ (الأنتروبولوجيا)، فالمنشغلون بالتربية ينتمون إلى حقول علمية بعينها، ثم أضيفت إليها التربية فيما بعد. ولو توقّف عند هذا الحد لكان من الممكن أن نقبله كوجهة نظر باحث يريد أن يخفِّف من شأن الاختلاف في مفهوم التربية، ولكنه قال: بالإضافة إلى ذلك فهناك (الظهير الثقافي والحضاري لكل منا – يعني الباحثين والعاملين في المجال التربوي – فهذا ظهيره ثقافة فرنسية وهذا إنجليزية، وهذا ألمانية وهذا أمريكية، وهذا ظهيره الأساسي ثقافة دينية أو ثقافة قومية)([15]). فكيف يمكن أن ينتفي الخلاف ويصبح مجرّد (زوايا رؤية) في قضية ترتبط بإنسانية الإنسان، نشأته وحياته ومآله، بين البعد الإسلامي التربوي، وبين غيره من الثقافات التي لا تؤمن أصلاً بخالق لهذا الكون، أو بين ثقافات حائرة في فهم إنسانية الإنسان؟
وفي هذا المجال يؤكد التربوي الفرنسي المعاصر (رونيه أوبير) أنه لا يمكن أن يوجد مربٍّ لا يحمل نظرة عامة عن الإنسان والوجود.
وليس ثمّة مذهب تربوي من أيام أفلاطون [427ق.م-347ق.م] حتى أيام روسو([16]) إلا وأعلن أن رسالة الإنسان هي تحقيق ماهيته([17]).
([9]) هو محمد بن زياد، من موالي بني هاشم، من الكوفة أبو عبد الله، المعروف بابن الأعرابي. كان أبوه رقيقا من السند . ثم مولى للعباس بن محمد بن علي العباسي الهاشمي. من أكابر أئمة اللغة بالكوفة. قال ثعلب: شاهدت مجلس ابن الأعرابي وكان يحضره زهاء مائة إنسان وكان يسأل ويقرأ عليه، فيجيب من غير كتاب، ولزمته بضع عشرة سنة ما رأيت بيده كتابا قط ولقد أملى على الناس ما يحمل على أجمال، ولم يُر أحد أعلم منه بالشعر هو ربيب المفضل الضبي صاحب المفضليات وكان المفضل تزوج أمه وأخذ ابن الأعرابي علومه عنه وعن ثعلب وعن ابن السكيت. ومن تصانيفه: كتاب النوادر، كتاب الأنواء، كتاب النبات، كتاب الخيل، كتاب الذباب، تفسير الأمثال، معاني الشعر، تاريخ القبائل وغيرها. توفي عن 81 سنة عن الشبكة الالكترونية موقع: ( .http://history.al-islam.com.)
([11]) قد ثبت في السنة الشريفة أنه عليه الصلاة والسلام قال:(تَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الأنْبِيَاءِ وَأَحَبُّ الأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وَهَمَّامٌ وَأَقْبَحُهَا حَرْبٌ وَمُرَّةُ) رواه أبو داود، سليمان بن الأشعث؛ كتاب: الأدب، باب: في تغيير الأسماء، رقم:4950، ص: 748، وقد غيَّر صلى الله عليه وسلم أسماء بعض الصحابة وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " لئن عشت إن شاء الله لأنهينَّ أن يسمى رباح ونجيح وأفلح ويسار". أخرجه الترمذي ، محمد بن عيسى بن سورة، في سننه ، كتاب: الأدب، باب: ما يكره من الأسماء. ورقمه(65) ورقم الحديث: (2836) ج5/ص: 133. وقال : هذا حديث حسن صحيح.
([16]) روسو [1712م-1778م]، فيلسوف فرنسي، معروف بأثره المتميّز في الفلسفة السياسية "العقد الاجتماعي" وكذلك في الفِكْر التربوي، وله فيه كتاب "إميل" الذي يروي قصة طفلٍ تربَّى على أفكار العدل والتعاطف والذي لا يمكن أن يُفسده مجتمع شرير. ويجب أن يتربّى الطفل - عنده- من خلال النشاط الطبيعي المتمشّي مع نموّه. (نقلاً عن معجم المصطلحات التربوية لجرجس، ميشتل؛ وحنا الله رمزي: ص: 307)
No comments:
Post a Comment