
المبحث الأول :الأسس والمنطلقات التي قامت عليها المناهج الجديدة والأهداف التي تصبو إليها.
لما كنا في الفصلين السابقين قد عرضنا مفهوم المنهج وأساسه ودعائمه بشكل عام، فإننا هنا سنعرض أسس المناهج الجديدة في لبنان ومنطلقاتها وأهدافها، ونركز فيها على ما يخص مادة اللغة العربية. وبعد عرضها، وبيان موقع اللغة العربية في هذه المناهج سنبدي ملاحظاتنا على ذلك كلِّه معاً.
أولاً : الأهداف التربوية في خطة النهوض التربوي:
وأول ما سنبحث فيه عن كل ما تقدّم، هو خطّة النهوض التربوي التي أعدّها المركز التربوي للبحوث والإنماء والتي تمّت موافقة مجلس الوزراء اللبناني عليها بتاريخ 17/ 8 / 1994 بقرار وزاري رقمه 15/94. ومن أبرز الأهداف في تلك الخطّة([1]):
1- تعزيز الانتماء والانصهار الوطني، والانفتاح الروحي والثقافي.
2- التشديد على التنشئة الوطنية والقيم اللبنانية الأصيلة: كالحرية والديموقراطية والتسامح، ونبذ العنف، والتشديد على النشاطات الشبابية والرياضية والفنية.
3- مواكبة التقدّم العلمي وتعزيز التفاعل مع الثقافات العالمية.
4- تحقيق التكامل بين التربية والتعليم من جهة، وحاجات المجتمع وسوق العمل اللبناني والعربي من جهة ثانية.
ثانياً: الغايات في الهيكلية الجديدة للتعليم في لبنان: ونبحث عنها بعد خطّة النهوض التربوي في الهيكلية الجديدة للتعليم في لبنان وَالتي وافق عليها مجلس الوزراء اللبناني بموجب قرار رقم 22 تاريخ 25 / 10 /1995. ففي مجال الغايات جاء فيها([2]):
1- تتوخى المناهج الجديدة تنمية شخصية اللبناني فرداً وعضواً صالحاً ومنتجاً في مجتمع ديموقراطي حر. ومواطناً مدنياً ملتزماً بالقوانين مؤمناً بمبادىء الوطن ومرتكزاته، مستجيباً لضرورات بناء مجتمع متقدّم ومتكامل يتلاحم فيه أبناؤه في مناخ من الحرية والعدالة والديموقراطية والمساواة. أمّا في مجال الأسس والتي عُبِّر عنها بالأبعاد، فقد قسمت فيها إلى :
أ- الأبعاد الفكرية والإنسانية:
1- الإيمان والالتزام بالقيم والمبادىء الإنسانية التي تحترم الإنسان وتقيم مكانةً للعقل وتحض على العلم والأخلاق.
2- التراث الروحي في لبنان تراث ثمين يجب صونه وتعزيزه، لأنّه مناقض للأنظمة والعقائد التي تقوُم على التمييز العنصري والتعصّب الديني.
3- التزام الثقافة الوطنية مع وجوب الانفتاح على الثقافات العالمية والقيم الإنسانية.
ب- الأبعاد الوطنية :الإيمان والالتزام بـِ :
1- لبنان وطن سيد حرّ مستقل وَلجميع أبنائه.
2- لبنان عربي الهُوية والانتماء.
3- لبنان جمهورية ديموقراطية برلمانية..
4- التعليم حر في لبنان، ما لم يخل بالنظام العام، أو ينافِ الآداب أو يتعرّض لكرامة أحد الأديان أو المذاهب. ولا يمكن أن تُمس حقوق الطوائف من جهة إنشاء مدارسها الخاصة.
ج- الأبعاد الاجتماعية: ومنها الالتزام بـ:
1- سيادة القانون .
2- احترام الحريات الفردية والجماعية.
3- المشاركة في العمل الاجتماعي والسياسي، ضمن إطار النظام اللبناني .
4- التربية ضرورة اجتماعية، وهي من أولويات الأعمال الوطنية. والتعليم تعتمد فيه الإلزامية تدريجياً حتى بلوغ سن الخامسة عشرة.
5- ضمان تطوير المناهج المستمر تلبية لاحتياجات المجتمع وسوق العمل.
ثالثاً: الأهداف في الهيكلية الجديدة:
وبعد ذكر الغايات والأبعاد عرج معدو الهيكلية على ذكر الأهداف على صعيد تكوين المواطن، فأثبتوا في قائمة طويلة أكثر من خمسة عشر هدفاً. جاء أكثرها تكراراً لما ورد في الغايات والأبعاد. والغريب أنّك لا تقع في كل هذه القائمة الطويلة إلا على بندٍ واحد أو هدف واحد يتعلّق باللغة العربية وهو الآتي:
1- يلتزم، ( أي المتعلّم، المواطن ) اللغة العربية لغة وطنية رسمية ويستخدمها بإتقان وفعالية في جميع المجالات.
ثمّ إنّهم أَتبعوا هذا الهدف مباشرة هدفاً آخر، ولا شك أنّه يُضْعِف فاعليّة المتعلّم في تعلُّم العربية وإتقانها. وهو الهدف المتعلق بتعلم اللغة الأجنبية:
2- إعداد المواطن المتقن لغة أجنبية واحدة على الأقل تفعيلاً للانفتاح على الثقافات العالمية وإغنائها والاغتناء بها.
رابعاً: الأهداف العامة لمنهج اللغة العربية كما تحددت في مناهج التعليم العام وأهدافها:
أمّا الأهداف العامّة لمنهج اللغة العربية والأهداف الخاصة لكل مرحلة وصف، فسنستخلص منها أهمها كما وردت في مناهج التعليم العام وأهدافها، مركزين على ما يختص بالقيم:
ومما جاء في المقدمة والأهداف العامة([3]):
1- تمثُّل القيم الروحية والأخلاقية.
2- تمثّل الخصائص اللبنانية في طاقاتها الإبداعية، لا سيما دور اللبنانيين في النهضة العربية، وفي الثقافة العالمية.
3- الاتصال بتراث اللغة العربية وآدابها، وتمثله والتزود من قيمه.
4- التأصل في الثقافة العربية وإدراك دورها في الحضارة العالمية، وتوطيد النفس على متابعة هذا الدور وتفعيله.
5- اعتماد الفصحى لغة تواصل وتعليم وإيجاد إلفةً بينه وبينها.
6- مطالعة الآثار الأدبية الكاملة واعتبارها مادة تعلُّم.
7- التعرّف إلى تاريخ الأدب العربي من خلال النصوص بحيث يبقى إطاراً لا غاية.
دراسة المسائل الأكثر ارتباطاً بالإنسان في قيمه وعصره.
1- اكتساب المهارات اللغوية، من مثل حسن الاستماع وسلامة النطق، والتواصل بالفصحى المبسطة، والتعبير بجرأة .
2- التعرف على حروف العربية، واكتساب المهارات المتعلقة بها والتمييز بينها سماعاً ونطقاً وكتابة وصولاً إلى تمكنه من القراءة بكل مهاراتها.
3- ملاحظة علامات الوقف، وما يصاحبها من تنغيم أو نبر، وتوظيف ذلك في القراءة الجهرية. والتمكن من القراءة خارج الكتاب المقرر مما يراه في محيطه.
4- اكتساب مهارات القراءة الصامتة، وفهم النصوص فهماً مجملاً ثم مفصلاً وتحديد الفكرة الرئيسة فيه والأفكار الثانوية وتنمية الميل للمطالعة.
5- تنمية إحساس المتعلم بالجمال، وتهذيب عاطفته، وتعزيز ثقته بنفسه.
6- يتمرَّس في استخدام مخزونه اللغوي أي المحادثة والتواصل، للإجابة عن أسئلة لاستيعاب النص، والانطلاق إلى أبعد من حدوده. ويوظِّف ملاحظاته من تنوع الأساليب تبعاً لتنوع النص وأغراض المتكلم.
7- ملاحظة بعض المبادىء اللغوية، أي إطار الجملة البسيطة بأركانها ومتمماتها لمحاكاتها. والأخذ بيده بالتدريج ليدرك المفهوم الزمني للفعل، ويراقب تصريفه مع الضمائر في تمرينات عملية، وصولاً إلى التمرس بالقواعد العملية وتوظيفها في تعبيره الشفوي والكتابي.
8- تمثل ما في النصوص من معارف وقيم.
وسنرى كيف اهتم معدّو محتوى المنهج بالقيم من خلال الكتاب المدرسي.
المبحث الثاني: موقع اللغة العربية في المناهج الجديدة وعلاقته بالقيم.
إنّ موقع أي مادة وأهميتها في المناهج الدراسية، تنبىء عنه النسبة المئينية التي تحتلها من مجمل الحصص الدراسية. وتحتل اللغة الأم في مناهج أكثر الدول المتقدمة وكذلك الدول النامية، نسبة تدور حول الثلث مثل البرازيل، وماليزيا وأَندونيسيا.
ومنها من يحدد نسبة عامة للغة الأم وللمواد التي تُدرَّس بها بحيث لا يقل مجموع حصص تلك المواد عن 75% وهذا ما رأيته معمولاً به في البرازيل. حيث قمت بالإشراف على تدريس اللغة العربية هناك والتربية الإسلامية في عدد من المدارس الإسلامية العربية، وجعلت عدد حصص اللغة العربية مع التربية الإسلامية عشر حصص من ثلاثين حصة أسبوعياً. فجاء ردّ الوزارة بالرفض إذ لا يُسمح أن يقلّ عدد حصص اللغة البرتغاليّة والمواد التي تدرس بها عن 75%. فاضطررنا إلى إعطاء بعض الحصص بعد الدوام الرسمي. فما موقع اللغة العربية في المناهج الجديدة في لبنان؟؟
تفيد الجداول التي تضمنتها مناهج التعليم العام([5]) أن عدد حصص اللغة العربية ونسبتها المئوية من مجموع الحصص هي الآتية كما تظهر في الجدول:
![]() ![]() ![]() | ![]() | الحلقة الثانية | الحلقة الثالثة | المرحلة الثانوية | |||||
| | | | السنة الأولى | السنة الثاني | السنة الثالثة | |||
| | | | | إنسانيات | علوم | إنسانيات | اجتماع واقتصاد | علوم عامة وعلوم الحياة |
عدد الحصص الأسبوعية | 30 | 30 | 35 | 35 | 35 | 35 | 35 | 30 | 30 |
عدد حصص اللغة العربية | 7 | 6 | 6 | 5 | 6 | 3 | 6 | 4 | 2 |
النسبة المئوية | 23.3 % | 20 % | 17.4% | 14.28% | 17.14% | 8.57% | 17.4 % | 11.4% | 5.7% |
وإذا أنعمنا النظر في هذه المعطيات، نجد أنّ اللغة العربية، مظلومة أيما ظلم. فأعلى نسبة لحصصها هي في الحلقة الأولى ولا تزيد عن 23.3% لتصل إلى 5.7% في السنة الثانوية الثالثة لفرعي: العلوم العامة وعلوم الحياة. وإذا أضفنا لهذا الواقع أن هناك قانوناً يسمح بتدريس مادتي الرياضيات والعلوم وغيرها بغير اللغة العربية فإن صورة الواقع تصبح أكثر سواداً وإيلاماً لكل غيور على العربية. إذ سيسمع المتعلم داخل الصف اللغة العربية 23% فقط من مجمل الوقت المخصص للجدول الدراسي الأسبوعي. فإذا قسنا الفارق بين ما يسمعه المتعلم من لغته الأم سواء في الحصص المخصصة لها أو المواد التي تُدرَّس بها وما يسمعه من لغة أجنبية، الانكليزية أو الفرنسية، وقفنا مذهولين، حيث يصل الفارق إلى أكثر من 50%. فأي شخصية تريد مناهجنا أن تبني؟! وهل بمقدورها أن تبني شخصية سويةً فاعلةً متطورةً، تتمتع بقدرات عقلية عالية، بهذه النسبة الضئيلة من الوقت المخصص للغة الأم؟؟!! فإذا ما أضفنا ما أقرته المناهج من وجوب تعليم لغة أجنبية ثانية، بدءاً من الصف السابع، تبين لنا مقدار الكيد للعربية ولما تحمله من قيم وثقافة هي المعول عليها في بناء شخصيته. وإننا نميل إلى اتخاذ نسبة حصص اللغة الأم في أي منهاج مدرسي مقياساً لمدى حضور القيم فيه، ولمقدار احتفال معدّيه بها. فإن نصوص اللغة الأم بتراثها وحاضرها تعد من أهم ميادين التربية على القيم.
المبحث الثالث: مدى حضور القيم التربوية في " فلسفة " مناهج التعليم العام في لبنان وأهدافها العامّة.
أ- على مستوى فلسفة المناهج:
تعد المنطلقاتُ التأسيسيةُ لأي منهج مدرسي، وهي ما يُعبِّر عنها أكثر التربويين بـ " فلسفة التربية "، والتي عبّرنا نحن عنها بـ ( أساس التربية وسماتها ) مما لا يُستغنى عنه. فلكل أمة رؤية عن الكون والإنسان، ترتكز إليها وتنطلق منها في بناء مناهجها. فالشيوعيون كانت لهم رؤيتهم، كما لكل مدرسة من المدارس التربوية رؤيتها، من البنيوية إلى البراغماتية إلى الواقعية... إلخ([6]). لكن المنهج المدرسي اللبناني لم يتبن صراحة أيَّ فلسفة، وقد أكد ذلك واضعو المنهج أنفسهم فقالوا: إنهم استوحوا الاتجاهات التربوية الحديثة في عملهم، من دون أن يحددوا النظريات والأسس التربوية التي استوحوا اتجاهاتهم منها، أو التي اعتمدوا عليها([7]). فهل الناس أمام القيم الإنسانية لهم الموقف نفسه؟! أليست بعض التصرفات في مجتمع ما تعد من القيم، بينما نجدها في مجتمع آخر مصنفة من الرذائل؟ أليست بعض المفاهيم الإيمانية التي يتبناها قوم من الأقوام تعد كفراً في متبنيات أقوام آخرين؟! وهل هناك اتفاق إنساني على القيم الإنسانية؟! ألا يختلف الناس حتى على مفاهيم محدّدة مثل : الحق والخير والجمال؟!
والسبب الذي يقبع وراء تعمية فلسفة المنهج معروف. وهو العناصر المكونة للمجتمع اللبناني، من أَتباع رسالات سماوية: إسلامية وَنصرانية: بشكل أساسي ويتفرع عنهما مذاهب وطوائف: سنّة، وشيعة، ودروز، وعلويون وموارنة وروم...إلخ. وطبيعة النظام السياسي المحكوم بوجوب مراعاة هذه التركيبة. هذا النظام الذي يرفض متبنيات الإسلام السياسية وما ينتج عنها من أنظمة وقوانين وأعراف، وبمقابل ذلك تلحظ التصريح بالتزام الديموقراطية، ويجعلونها في مواجهة ما أسموه التعصب الديني([8]) ونحن نسأل ما العيب في التعصب الديني؟ وإذا لم يتعصب المرء بدينه، ولدينه؟ فبمَ؟ ولمن يتعصب؟ ولماذا يُذم المتعصب لدينه ويمدح المتعصب لنظامه الديموقراطي أو الاشتراكي؟ لماذا يُعد سلوك المسلم أو المسلمة، في كثير من أنماط عيشهما، في المأكل والمشرب والملبس وحتى في التحية تعصباً؟ ولماذا يُمتدح المتفلتون من قيمنا، المستمسكون بعادات وتصرفات أجنبية ؟ ومنها الشرقي والغربي!! أليست الديموقراطية فلسفة ورؤية ونظام حياة؟ لذلك نجد أنّها وردت في المبادىء العامّة للمنهج وفي مفاصله الثلاثة الأساسية: الفكرية والوطنية والاجتماعية. فالديموقراطية إذاً هي الخيط الذي ينظم حبات العقد في المنهج المدرسي اللبناني هذا. وهي الفلسفة التي يتبناها عملياً وإن لم يُصرَّح بذلك.
فالقيم التي تدعو إليها مناهج التعليم العام في لبنان إذاً هي قيم الديموقراطية وإن ألبسوها لبوساً إنسانياً عاماً وقالوا عنها: القيم الإنسانية. ويبدو ذلك واضحاً في دعوة المناهج إلى تنمية شخصية المتعلّم اللبناني في مجتمع ديموقراطي. وهذا ما ورد في الهيكلية الجديدة للتعليم في لبنان وأثبتناه في الفقرة ( ب ) في البند الأول.
ب- على مستوى الأهداف العامة للمناهج.
بداية نشير إلى أمر خطير وهو إثبات ما أسمَوه المبادىء العامة تحت الأهداف وكأنّها تُشتق منها، والعكس صحيح، فالأهداف تحدد في ضوء المبادىء العامة أو تًشتق منها.
ثم إن الذي يستقري الأهداف العامة باحثاً عن القيم التربوية، يجدها مبتورة عن أصلها ومصدرها. وقد جاءت في صياغة ضبابية، في محاولة لطمس هُويتها، وصولاً إلى نيل رضى الأطراف والأطياف التي يتشكل منها المجتمع اللبناني كلِّها. وبعض هذه الأطراف قد يناسبها ذلك، فالنصارى اليوم، لا يؤمنون بالنصرانية عقيدة وشريعة معاً، فحياتهم خارج الكنيسة يمكن أن تنتظم تحت أي قانون. وبالتالي تصبح قيمهم في مجالات الحياة اليومية هي ما ارتضاه ذلك القانون أو تلك الأعراف والعادات والتقاليد. أما المسلمون فدينهم عقيدة وشريعة وكل سلوك يسلكونه لا بدّ أن يكون موصوفاً بحكم من الأحكام الشرعية، من المباح إلى الحرام؛ لذلك نرى أن العبارات التي اشتملت عليها الأهداف العامّة في مجال القيم عامة، لا ترقى أبداً إلى مرتبة القيم الإسلامية، وبالتالي سيتلقى المتعلّم المسلم في لبنان، بناء على هذه المناهج، قيماً مضادة وبالتالي سيتخلى عن قيمه لصالحها، لو اقتصر في تعلّمه على هذه المناهج فحسب. ومن هذه العبارات:
_ "الانفتاح الروحي "، "والقيم اللبنانية" ، " سيادة القانون " تمثُّل القيم الروحية والأخلاقية"، "القيم اللبنانية في طاقاتها الإبداعية" "التزود من قيم تراث اللغة العربية وآدابها". وقد أوردنا موقفنا من مصطلح القيم الروحية([9]) ولنا أن نسأل هنا ما القيم اللبنانية؟ وما مصدرها؟ بل ما حقيقة وجودها أصلاً؟ وما مدلول الطاقات الإبداعية؟ وما علاقة الإبداع وطاقاته بالقيم اللبنانية؟؟ وهل أبدع، على اختلاف مفهوم الإبداع، من أبدع من اللبنانيين لأنه لبناني؟؟؟ وبماذا سيردون عن عوامل إبداع المبدعين الذين ينتشرون في مشارق الأرض ومغاربها؟ ومنهم الأسود والأصفر ومنهم... ومنهم...إلخ. وما القيم التي يحملها تراث اللغة العربية؟ وهل تلبي هذه العبارة مفهوم لبنان العربي، والتواصل والتفاعل مع محيطه العربي؟؟؟
ومع كل ملاحظاتنا هذه على المناهج الجديدة ونحن نستقري القيم فيها، إلا أن هناك قيماً لا بد أن نشير إليها معتزين بوجودها ومنها:
1- إلزامية التعليم، ولو أنها ما زالت حبراً على ورق. فالدولة الإسلامية ملزمة بتعليم جميع أبناء مواطنيها من المسلمين وغيرهم([10]).
2- لبنان بلدٌ عربيٌ يلتزم مواطنوه اللغة العربية الفصحى في جميع المجالات ويتأصل متعلموه في الثقافة العربية، ويعون دورها. وسنرى، في بحثنا عن القيم في المحتوى، كيف تمثل الذين أعدو هذه القيم. ونشير إلى أمر خطير بني عليه منهج الروضة، حيث يعتبرون فيه أن العربية الفصحى لغة غريبة على الطفل كاللغات الأجنبية. ولغته الأم هي العامية، وبناءً على هذا الفهم الخاطىء لم تذكر مناهج الروضة أهدافاً خاصة باللغة العربية الفصحى، بل جعلتها مع العامية والأجنبية تحت عنوانٍ واحد([11]). وفي هذا المجال يؤكد الدكتور الراجحي أن لا علمية لدعوى اعتبار العامية هي اللغة الأم، وعلم اللغة التطبيقي يدحضها. ويؤكد وجود مستويات وأنماط لغوية في كل اللغات([12]). وفي المجال الاجتماعي : نقف على قيم، هي في الحقيقة من خصائص المدرسة الاجتماعية في التربية فلا تقع على قيمة محددةٍ خاصةٍ في المناهج اللبنانية، فالمناهج اللبنانية تنظر إلى المدرسة على أنها مؤسسة اجتماعية تعنى بتربية أبناء فاعلين اجتماعياً. وذلك من خلال :
1- بناء الشخصية الفردية القادرة على تحقيق الذات وتحمل المسؤولية والتواصل مع الآخرين بروح المواطنية المسؤولة.
2- بناء مجتمع لبناني موحد، يتلاحم أبناؤه فيه ويعملون على إعلاء المصلحة العامة، وتوطيد روح السلام بين الأفراد والجماعات.
3- مشاركة المواطنين كافة في العملية التربوية، وربط الاختصاصات التربوية بسوق العمل والحاجة فيه.
والناظر إلى هذه القيم التربوية يجد أنها لازم من لوازم أي منهج مدرسي في هذه الأيام. ونلفت إلى أنّ مفهوم العمل الجماعي، وبناء مجتمع متماسك هو من أهم أهداف التربية الإسلامية. ولنا ملاحظة لغوية على استخدام ( يتلاحم أبناؤه ) فالتلاحم يأتي نتيجة قتال وحراب وطعان... ويقال تلاحم الجيشان عندما يشتد القتال ويختلط لحم الفريقين من الجيشين وتلاحمت الشّجَّة إذا برأت([13]). وكان يمكنهم استعمال مفردات أخرى غيرها، تفيد التعاون والتناصر.
المبحث الرابع :القيم التربوية التي اشتملت عليها أهداف منهج اللغة العربية العامة والخاصة في التعليم الأساسي.
بقيت العبارات المرتبطة بالقيم محاطة بضبابية وغموض، مفتوحة إلى أقصى مدى على الإنسانية المترامية، من غير أي هُوية، وكأنّها عولمة في مجال القيم، ثم تُختزل هذه الإنسانية المطلقة، في ثوبها العالمي، إلى اللبنانية المفرطة، باستثناء بند واحد ذكروا فيه التزود من قيم تراث اللغة العربية. فما كان متصلاً بالعرب والعربية فهو تراث، وكذلك ما كان متصلاً بالرسالات السماوية فهو أيضاً تراث، بكل ما تحمل هذه المفردة من دلالات، ليس أقلها التوغل في الماضي وعدم الفاعلية في الحاضر فضلاً عن المستقبل. فصورة القيم إما إنسانية عالمية واسعة وَمن غير ضوابط، أو لبنانية خاصة مغلقة. وفي كلا الحالتين لا تنبئك أيُّ عبارة في بنود الأهداف كلِّها عن قيمة واحدة محددة. فقد وردت مفردة القيم مرتين في الأهداف العامة لمنهج اللغة العربية: مرة أضيفت إلى ما ينسب إلى الروح (روحية) والأخلاق ( أخلاقية ). ومرة أضيفت إلى ضمير يعود إلى تراث اللغة العربية. والجدير بالملاحظة أننا لا نقع على مفردة( قيمة ) في الأهداف الخاصة بمنهج اللغة العربية في الحلقتين، الأولى والثانية من التعليم الأساسي. ونجدها مرة واحدة في آخر بند من الأهداف الخاصة بالمحادثة والقراءة والأدب والمحفوظات العائدة للحلقة الثالثة من التعليم الأساسي. وقد جاءت مقرونة بالمعارف هكذا: (تمثل ما في النصوص من معارف وقيم ). ويمكن رسم خط حضور القيم في المناهج الجديدة بدءاً من أساس المنهج، مروراً بالأهداف العامة للمناهج، وبالأهداف الخاصة بمنهج اللغة العربية وصولاً إلى أهداف تعليم العربية في كل حلقة على الشكل الآتي:



![]() |
فكلما ابتعدنا عن أساس المنهج، والذي عبروا عنه بالمبادىء العامة، واقتربنا من الأهداف الخاصة، ضاق هامش القيم حتى يكاد يتلاشى. ولا ندري كيف ستكون صورتها في المحتوى الذي يعبَّر عنه كتاب التلميذ وملحقاته من دفتر نشاطات ودليل معلم؟؟؟ وهذا ما سنتبعه في المبحث القادم بعون الله تعالى.
طبعاً يمكننا الوقوف على قيم معنوية، وإن لم تأت تحت مسمّى قيمة، من مثل: اعتماد الفصحى _ مطالعة الآثار الأدبية _ التأصُّل في الثقافة العربية...إلخ. كما نقع على موقف من علاقة التاريخ بالأدب، حيث نصّ أحد البنود مقتصراً في علاقة التاريخ بالأدب على " التعرف " إلى تاريخ الأدب العربي، ثم أوضح صورة هذا التعرف قائلاً: بحيث يبقى، أي التاريخ، إطاراً لا غاية. وقد بينا في الفصل السابق أهمية البعد التاريخي في المناهج عامة، وفي منهج العربية خاصة. فمناهجنا تقدم النصوص وكأنها ولدت للتو، وولدت في فراغ. فلا تاريخ لها ولا جغرافيا.
وقد ذكرنا في الفصل الأول أنّ الغرب أعلى من شأن القيم في مجتمعاته لأنّه صار خالي الوفاض في الجانب العقدي، فلم يعد هناك من وازع أو ضابط داخلي إيماني يوجه سلوك الناس. فالتجؤوا إلى القيم علّها تساعد في ذلك، لكنهم وقعوا في الدواء الذي أرادوه علاجاً لمشكلتهم. فالمجتمع عندهم، هو الذي يصوغ القيم، وهو مصدرها، لذا وجدوا أنفسهم في حلقة مفرغة. فالمجتمع يواجه مشكلة، والقيم هي الحل، والمجتمع المريض هو الذي يصوغ القيم. فأنى ينجحون؟؟ ويبدو أن ما وقع به التربويون عندنا أخطر، حيث أداروا ظهورهم للقيم الدينية، وطلبوا القيم الإنسانية العامّة، أو القيم اللبنانية، فجاءت مناهجنا في مجال القيم على الصورة التي رأيت.
المبحث الخامس: واقع محتوى منهج اللغة العربية والقيم المبثوثة فيه: نماذج من الصف الأول لكل حلقة .
بعد أن تبينا مكانة القيم في الأهداف العامّة للمناهج، وفي الأهداف العامّة لمنهاج اللغة العربية، وكذلك في الأهداف الخاصة لمنهاج العربية في حلقات التعليم الأساسي الثلاث، سنعرض الآن واقع المحتوى، والذي هو الترجمة العملية لتلك الأهداف كلّها، وسنبين موقع القيم فيه بشكل عام، وذلك من خلال دراسة المحتوى الخاص بأول صف من صفوف كل حلقة، أي: الأول أساسي، والرابع أساسي والسابع أساسي. حيث سنقوم بدراسة المحتوى الخاص بكل صف منها دراسة تفصيلية، لكتاب التلميذ، ولدفتر النشاطات المرافق له وللدليل التربوي، وسنتتبع في هذه الدراسة كلَّ ما يمكن أن يصنَّف على أنّه قيمة. ثمّ إننا سننظم استبانة نوزعها على بعض المدرسين والمدرسات للوقوف على آرائهم في مدى حضور قيم محدّدة. وبعد ذلك نصدر حكماً عن موقف مناهج اللغة العربية من القيم التربوية بشكل عام.
أولاً: واقع المحتوى والأمور المتصلة بإعداده:
يكاد يجمع أهل التربية أن اختيار المحتوى هو العنصر الفاعل والمهم في العملية التعليمية التعلمية. وطبيعي أنّه مرتبط بعدّة عوامل، وهو متأثر بها إلى حدٍّ بعيد. وهذه العوامل يظهر أثرها في كل مخرجات التعليم، وخاصة في مجال القيم. ومن هذه العوامل:
الأهداف العامة للمناهج، والأهداف العامة والخاصة لمناهج اللغة الأمّ، والوقت المخصص لها في الجدول الأسبوعي الدراسي، والنظرية التعليمية المتبناة، والطرائق المتصلة بها، ومنهجية التأليف ومستوى المقرر الدراسي، ومدى الاستجابة لخصائص تلك اللغة. والتقويم بخصائصه واتجاهاته وأنواعه، وصولاً إلى معدّي هذه المقررات الدراسية.
وقد تكلمنا في الفصل السابق عن عناصر المنهج كلّها، وبينا في بداية هذا الفصل مدى حضور القيم في الأهداف، كما بيّنا موقع اللغة العربية في المنهاج المدرسي والجدول الدراسي الأسبوعي. وبقي أن نعرج على أمور تتصل بالمحتوى منها :
أ- نظرية التعليم والطرائق المتصلة بها :
ترتبط نظريات التعلّم، بالمدارس التربوية وفلسفاتها، وقد ازدادت أواصر هذا الترابط بعد أن قدمت الكشوف العلميّة الكثير عن واقع الدماغ البشري وآليات عمله. وخلال القرن الماضي تكثفت الدراسات العلمية عن الطفل والطفولة، مما وضع أسساً قويمة لأساليب التواصل مع الأطفال في الجوانب التعليمية خاصة والتربوية عامّةً([14])
وفي مجال نظرية التعلّم، ذكرنا أنّ الذين أعدّوا المحتوى، قد صرحوا أنّهم استوحوا الاتجاهات التربوية الحديثة دون أن يلتزموا بنظرية تربوية محدّدة. فهنا يأخذون من " فروبل " [1782م -1852م] أو " هربارت "
[ 1776 م – 1841 م ] وهناك يأخذون من " سبنسر " [ 1820م – 1903م] أو من " دوكرولي " [ 1871م – 1932م ] أو من " ماريا منتسوري"[1870م – 1952م ] أو غيرهم([15]). وهذه المدارس التربوية أقرب للطرائق منها للمدارس. ولها وعليها.
ومن واجب التربوي العربي أن يطلع على تجارب الآخرين، ولكن المشكلة تكمن في أن من يأخذ، يأخذ من غير تمحيص ولا تدقيق، لأنّه غالباً فاقد الصلة بالتراث التربوي الإسلامي، عامة والعربي خاصة. فليس عنده مرجعية يحتكم إليها في نقده النظريات التربوية الغربية التي يدرسها. وغالباً يتبناها منبهراً بها. وإن نظرة سريعة إلى أسماء هيئة التخطيط وأعضاء لجنة اللغة العربية تشير إلى غلبة الثقافة الغربية في تكوين هذه اللجنة. ويبدو أنّ العربية تأبى أن تكون ثقافة طهاة مناهج تعليمها إلا من ثقافة أمتها ومن محبيها، ولو لم يكونوا من جلدة أبنائها الناطقين بالضاد. فأكثر أعلام علوم اللغة العربية ليسوا عرباً، لكن ثقافتهم وفكرهم وشخصياتهم، تشكلت في ضوء ثقافة الأمة وعقيدتها وكان انتماؤهم إليها. فإذا كانت الثقافة الغربية لبوس أكثر أعضاء هيئة التخطيط ولجنة التأليف، فكيف ستكون صورة القيم في محتوى مناهج العربية؟!
أمّا في مجال الطرائق، فهي أخطر ما تكون في الأول أساسي خاصة والحلقة الأولى عامة، ولا شك أن لها تأثيرات عديدة على مخرجات العملية التعليمية التعلمية في أي مرحلة وفي أي صف. لذلك سنقف عندها في ما يخص الصف الأول أساسي. وإن ما ورد في الدليل التربوي تحت عنوان: "توجيهات في طرائق التدريس" ينبىء عن عدم تبني طريقة بعينها، ثم يأتي التصريح بذلك فيقولون: مهما تكن الطريقة المعتمدة فالمهم قيامها على أسس حديثة ناشطة وفعّالة، بحيث تثير تفكير المتعلّم وتراعي ميوله وتنمي قدراته، ولا بد أن يتم تعليم العربية على أنّها وحدة مترابطة متكاملة في فروعها جميعاً([16]). لكن ما ورد في مقدمة كتاب التلميذ يُشير إلى اعتماد الطريقة التوليفية أي: التحليلية التركيبية. ففي مجال التحليل، يشاهد المتعلّم الصورة ويتفاعل معها، فيعبر عنها من خلال أسئلة موجهة بعدّة جمل، ثم يأخذ المدرس بيده ليختار كلمات تحوي صوتاً محدداً. وبعد ذلك يميز المدرس صورة الصوت، أي الحرف المكتوب، بلون مختلف عن باقي حروف الكلمة...
ثم في عملية عكسية يركب من الحروف التي خبرها كلمات ذات معنى، ولها دلالة في ذهنه([17]).
وهذه الطريقة، إن التزم بها المؤلفون، وتمثَّلوها جيداً، واستجابوا لخصائص العربية، تؤتي أُكُلَها. ولا شك أن التزام طريقة مناسبة لخصائص المتعلّم، ولخصائص المادة يُعد من القيم التربوية. وسنلتفت ونحن نستقري المحتوى إلى مدى مناسبته للطريقة المعتمدة. وما مقدار صلاحية النصوص لتكون ميداناً للعمل على تحقيق الأهداف التربوية باعتماد هذه الطريقة.
ب- مستوى المقرر:
إن تحديد مستوى المحتوى من حيث النمطُ اللغويُّ، والبيئةُ اللغويةُ، والمعارف والعلوم، يُعد من أهم العوامل التي يتأثر بها المحتوى. فلا بد أن يسأل معدو المحتوى أسئلة تساهم الإجابة عنها في جعل المحتوى متصفاً بصفات تربوية، فيقبله المعلمون ويُقبل عليه المتعلمون، ويتجاوب معه الأهل بشكل عام. ومن هذه الأسئلة:
1- ما المعارف التي يملكها المتعلمون في هذا الصف ويمكن الانطلاق منها؟ فالمنهاج بدءاً من أهدافه، لا ينطلق في مجال المعارف من الصفر. فإنّه يبني على المعارف التي اكتسبها المتعلّمون من وسائل منتشرة في بيئتهم، وخاصة الاجتماعية، فالمتعلمون اجتماعيون يتفاعلون مع محيطهم، وتنمو خبراتهم ومعارفهم يومياً. فالطفل يأتي إلى مرحلة الحضانة أو الروضة، وقد اكتسب الكثير من المعارف والخبرات والقيم، وخاصة في المجال اللغوي. وعلى معدي المحتوى أن يقفوا على كل ذلك وينطلقوا منه أو يأخذوه بعين الاعتبار. وهذا ما سنبحث عنه في عملية استقراء المحتوى.
2- ما المعارف التي يمكنهم أن يحصِّلوها؟ وماذا سنختار منها؟ ذلك أن قدرات المتعلمين، في كل عمر، وبالتالي في كل صف، على تحصيل المعارف والعلوم معروفة. وهناك كمّ هائل منها، ولا يتسع البرنامج الأسبوعي، أي الوقت، ولا الكتاب المدرسي لكل هذه العلوم والمعارف، لذلك وجب الاختيار. ودقة الاختيار في هذا المجال تعد من المعايير التي يحكم بها على مدى سلامة المحتوى وصلاحيته.
3- ما النمط أو الأنماط اللغوية التي ستعتمد؟ وكيف نَنْفُذُ من المشكلات الناجمة عن الثنائية اللغوية في مجتمعنا العربي، عنيت العامية والفصحى؟ وهل سنستجيب لواقع اللغات الخاصة؟ وفي أي مرحلة؟ وبأي نسبة؟ فهناك لغة المراسلات التجارية، ولغة القانون، ولغة الدبلوماسية ولغة الإعلام. وهذا بالطبع غير الأنماط التي التزمها منهج اللغة العربية: النمط السردي، والنمط الوصفي، والنمط الإيعازي، والنمط التفسيري، والنمط البرهاني، والنمط العلمي.
4- ما المعايير المعتمدة في استخدام المفردات؟ فتحديد تلك المعايير والاحتكام إليها يجعل المفردات في متناول أيدي معدي المحتوى. ومن هذه المعايير([18]):
أ- سعة الانتشار أو الشيوع: وهذا المعيار هو المعول عليه في اختيار مفردات النصوص. فتعلم مضمون أي نص، واكتساب المهارات اللغوية من خلاله، يكون أسهل وأسرع وأوقع في النفس، إذا كانت مفرداته من تلك التي تشيع على ألسنة المتعلمين في فئة عمرية معينة. وقد ثبت من خلال الدراسات أن عدد المفردات التي نحتاجها في بناء نصوص محتوى منهج اللغة الأم مع ما يرافقه من نشاطات تعليميَّة تعلُّمية أو تقويميَّة قليل جداً.
فقد أفادت دراسات أن الألف كلمة الأولى في قائمة الكلمات الأكثر شيوعاً تحتل نسبة أكثر من 80% من مفردات النص. وتساهم في فهمه بحدود هذه النسبة. وأن الألف الثانية في مرتبة الشيوع تسهم في فهم 8% إلى 10% من النص. وما تبقى مجتمعاً يساهم بفهم النسبة المتبقية أي بحدود 10% في حالات فهم النص فهماً تامّاً([19]). وانطلاقاً من نتائج هذه الدراسات، نرى ضرورة أن يعتمد واضعو محتوى منهج اللغة العربية على دراسات استبيانية ميدانية، يخلصون منها بقوائم المفردات الأكثر شيوعاً في كل مرحلة عمرية، ولقد قام فريق عمل قسم اللغة العربية وآدابها في المركز التربوي عام 1973 بخطوة جيدة باتجاه مثل هذه الدراسات. وجاءت تحت عنوان( مشروع تحديد اللغة العربية الأساسية). ويبدو أنّ هذا المشروع ، أحالته الظروف التي مرّ بها لبنان في تلك المرحلة إلى الأدراج أو الرفوف. وقد خُطِّط للمناهج الجديدة بدءاً من العام 1992 بما يعرف بخطة النهوض التربوي، إلا أن هذا المشروع لم يوضع موضع التنفيذ، وكان من الممكن جداً الاستفادة من الفترة الواقعة بين العامين( 1992) و ( 1997) وهو تاريخ البدء بتطبيق المناهج الجديدة، لإعداد دراسات عن القوائم اللغوية الشائعة ولإعداد مؤلفين وتدريبهم. فالتأليف المدرسي صار علماً وله ميادينه، وفي كليات التربية أصبح " تَخَصُّصاً ". ولولا الخلافات والتنازع على الصلاحيات بين كلية التربية والمركز التربوي، لكان من الممكن القيام بذلك كلِّه. وفي ظل غياب قائمة خاصة بالمفردات الأساسية في لبنان، نرى أنّه كان لزاماً الاستفادة من قوائم معدّة سابقاً في أكثر من مكان في العالم العربي، مَعَ أنّها فردية، وتقادمت، إلا أننا لا نعدم الاستفادة منها. وهذه بعضها([20]):
1- قائمة لطفي في العام 1948.
2- قائمة فاخر عاقل في العام 1953.
3- قائمة خاطر في العام 1954.
ويجب أن يكون معيار الشيوع هذا، قيمة من القيم التربوية التي تتمسَّك بها لجان التأليف وخاصة للصف الأول من مرحلة التعليم الأساسي.
ب- اتساع الحقل المعجمي للمفردة: ويقصد بذلك كثرة الاستخدامات المعجمية في مجالات مختلفة، فهناك مفردات تتردد في سياقات مختلفة، مثل: ضرب، فيقال: ضربه، وضرب له موعداً، وضرب خيمة، وضرب بالنار، وضرب مثلاً، وضرب مقارنةً، وضرب أخماساً بأسداس...إلخ. وهذا الاتساع قد ينجم عن استخدام كلمة مَعَ كلمات أخرى مثل الفعل:(خرج ) أو ( عاد) مع أحرف الجر، فنقول: خرج إلى، وخرج من، وخرج عن، وخرج بـِ وخرج في، وخرج على ... إلخ.
ج- انتماء المفردة إلى بيئة دلالية: فالمفردات أساساً وُضعت للتعبير عن واقع، وكل واقع له عناصره، وقد يكون لكل عنصر مفردة أو أكثر. فكما تنشأ العلاقة بين عناصر الواقع، وتنتقل إلى أدمغتنا، تنشأ العلاقة بين المفردات التي يُعبَّر بها عن هذا الواقع. فإذا ما ذُكر أحد عناصر هذا الواقع تداعت المفردات التي لها علاقة بذلك الواقع عامة، وبما يتصل به وذلك مثل: الشاي، فإن ذكره يستدعي مادته، وإبريق الشاي والأكواب، والسكر، وملعقة الشاي، وتحريك السكر، كما يستدعي أفعالاً متصلة بذلك الواقع مثل: حضَّر – سكب – قدَّم – سخن – غلى – بَرَدَ، ويستدعي صفات مثل: ساخن، بارد، حُلوٌ، مُرٌّ، ثقيل، خفيف، أحمر، أخضر...إلخ. فكلما كان النص مع نشاطاته، حافلاً بوقائع سبق للمتعلم أن اتصل بها وخبرها وتعامل معَ عناصرها، أي كلما زادت معرفة القارىء أو السامع الموضوع، أتت النتائج أفضل على مستوى إقبال المتعلّم ومخرجات التعليم.فالسامع، في هذه الحالة، يستطيع أن يفهم بسهولة كلاماً ينطق بسرعة( 250 ) كلمة في الدقيقة([21]).
د- الانتشار الاشتقاقي لأسرة المفردة: فالعربية من خصائصها أنّها لغة اشتقاقية([22])، وحروف الجذر تبقى حاضرة في كثير من المفردات التي تشكل أسرة اشتقاقية. فكلما كان عدد أفراد الأسرة الاشتقاقية، وتقليبات الجذر أوسع استعمالاً ساعد ذلك في أمور تعليمية عديدة منها:
1- سهولة فهم النصوص، فإذا عرف المتعلم معنى ذَبَحَ مثلاً عرف معنى ذابح ومذبوح وذبّاح حتى لو لم يسمع هذه المشتقات من قبل. فهو يقيس على ما يعرف معناه وجاء على وزن: فاعل، ومفعول، وفعَّال.
2- المساهمة في تشكيل قالب لغوي في الدماغ عن طريق القياس، فالمتعلم يستطيع أن يقيس جديداً مجهولاً على قديم معروف.فالطفل الذي اكتسب صيغاً مثل خبَّاز ونجَّار وحدَّاد. فلو صادفته كلمات تعبّر عن صناعات لم تعد شائعة في محيطه مثل: ورَّاق، وحجَّار، وحذَّاء... أو تعبر عن صناعات أو مهن جديدة مستحدثة، فإنّه يفهمها عن طريق إدراك العلاقة بين المشتق والجذر مثل: " المحوسِب" و " المدبلج ". فإنه يفهم مدلولها من خلال وزنها المرتبط في ذهنه بأهل الصناعات. وهذه أيضاً من خصائص العربية، أي أنّها لغة قياسية، ويجب توظيفها في إكساب المتعلم المهارات اللغوية، فهذه الخصيصة لا يستخدمها المتعلم في بناء مفردات جديدة فحسب بل يوظفها في فهم مفردات جديدة تواجهه في ما يقرأ أو يسمع. كما يوظفها في مجال البناء الجملي والقياس على النماذج النحوية بشكل واسع([23]). فهذا ونحوه من خصائص اللغة العربية الشريفة اللطيفة، وإنما يسمع الناس الألفاظ فتكون الفائدة عندهم منها([24]).
هـ- بنية الجملة : بعد الكلام عن صفات المفردات، من حيث حروفها وأوزانها، وشيوعها، ودلالتها وعلاقتها بالمسمى...إلخ. ننتقل الآن لنتحدث عن علاقات هذه المفردات فيما بينها في بناء الجملة، أي في وظيفة المفردة نحوياً. فهناك علاقات محدّدة بين المفردات ينتج عنها جملٌ. كعلاقة الاسم الذي يقوم بالعمل بالكلمة التي نعبر بها عن العمل الذي قام أو يقوم أو سيقوم به. أي علاقة الفعل بالفاعل، أو المبتدأ بالخبر. وهكذا فالذين يُعدون المحتوى لصف معين، أو يختارونه يجب أن يحددوا أنواع الجمل التي ستكون عماد نصوصهم. وليس أمامهم إلا أن يستندوا إلى خبراتهم، إذ لم أقع، بحدود اطلاعي، على أي دراسة لتحديد المستويات النحوية المناسبة للفئات العمرية، أو للصفوف في مختلف المراحل. وبالتالي ليس هناك قوائم لتوزيع أنواع الجمل على محتوى المنهج وفقاً لتدرج الصفوف. وعلى معدي المحتوى أن يعدوا قوائم يجمعون فيها نماذج الجمل النحوية، محاولين ترتيبها تنازلياً من حيث كثرة التكرار، ثم يقومون بتوزيعها وتدريجها عمودياً على الصفوف وأفقياً في كل صف. فهناك من الجمل الفعلية: التي فعلها لازم، أو متعدٍ، والتي فاعلها مؤنث، أو مذكر، مفرد أو مثنى أو جمع مذكر سالم، أو مؤنث سالم،...إلخ. وهناك الجمل التي تتضمن نوعاً من أنواع المفعول المطلق، والمفعول لأجله، والمفعول فيه...إلخ. وهناك الجمل التي فيها حال أو تمييز...إلخ. وهناك أنواعٌ من الجمل الاسمية كذلك، وهناك الجملة البسيطة والأخرى المركبة.
وكان من الممكن بعد خطة النهوض التربوي مباشرة، تحديد أعضاء اللجان، ليصار إلى تدريبهم، وتحديد البحوث اللازمة لإعداد المحتوى. ومنها البحوث المتعلقة بإعداد هذه القوائم. لكن للأسف فهذا لم يتم. وليس سبب ذلك ما نعرفه من صعوبة إنجاز مثل هذه القوائم، إنّما إدارة العمل، والنظرة إلى موقع اللغة العربية في المناهج.
و- سمات الجمل: وبعد الكلام عن البناء النحوي في الجمل والعلاقات القائمة بين المفردات نحوياً، نلفت إلى أنّ هناك سمات يجب أن تتسم بها الجمل، ليسهل فهمها ومنها([25]):
1- أن تكون الجملة قصيرة بحيث لا تشكل كثرة مفرداتها عبئاً على ذاكرة القارىء، وخاصة في كتب الصفين: الأول والثاني من مرحلة التعليم الأساسي.
2- أن نقتصر في الجملة الواحدة على أقل عدد من الأفكار أو الموضوعات. وهذا يساعدنا في تكثيف النشاطات المعروفة بإثراء الجمل. ومثال ذلك: ذهب الفلاح إلى حقله. فهذه الجملة تطرح فكرتين هما: 1- ذهاب الفلاح 2- أنه ذهب إلى حقله. وفي نشاطات إثراء هذه الجملة يمكننا زيادة الآتي:
أ- وصف الفلاح. ذهب الفلاح النشيط إلى حقله.
ب- تحديد زمان الذهاب. ذهب الفلاح باكراً إلى حقله.
ج- وصف الحقل. ذهب الفلاح باكراً إلى حقله البعيد.
د- تحديد الوسيلة التي استخدمها. ذهب الفلاح باكراً إلى حقله البعيد بالجرار/ على الحمار.
هـ- تحديد هدف الذهاب. ذهب الفلاح باكراً إلى حقله البعيد ليقطف التين...
فالذي ساعد في تعدد صور هذا النشاط الإثرائي هو قصر الجملة وسهولتها من جهة وانتماؤها إلى بيئة معروفة من قبل المتعلم من جهة ثانية. واشتمالها على فكرتين بسيطتين من جهة ثالثة، فكلما زاد عدد الأفكار أو الموضوعات في الجملة الواحدة زادت صعوبة فهمها وضاقت مساحة النشاطات التي تسمح بها.
3- ألا يطول الفصل بين أركانها: فالجمل التي تتلاحق أركانها، ولا يُفصل بينها تكون أسهل تذكراً وفهماً وذلك نحو:
_ رأيت وأنا ذاهبة إلى المدرسة صباحاً مع والدي صديقتي ليلى.
فترتيب الجملة: فعل + فاعل + مفعول به +..... أسهل ويمكن استدعاء نموذجه من الذاكرة لتوظيفه في الفهم.
4-التعبير بطريقة تنسجم مع طبيعة الملاحظة والتفكير: فالناس يلاحظون الأشياء في الواقع بطرائق تحددها طبيعة العناصر المكون منها الشيء، وعلاقته بما حوله وبمحيطه. فعلاقة الصحون والملاعق والطعام أن تكون على الطاولة. فلا نقول: الطاولة تحت الصحون، أو الكتاب تحت القلم، ونقول: الكرة تحت المقعدِ. فـ"تحت" ظرف يفيد أن المضاف إليه أوسع مساحة ويستوعب أن تكون الكرة تحته. وذلك لا يستقيم في قولنا: الكتاب تحت القلم، أو الطاولة تحت الصحون. ولو كان ذلك صحيحاً من حيث التركيب النحوي .
ز- أساليب الجمل: ونقصد بها أنواعاً مثل: الاستفهام، والنفي والإثبات أو التأكيد، والاستثناء والقصر، والتمني...إلخ.
ويقع تحت كلِّ أسلوب عدة استعمالات. فالاستفهام مثلاً يكون عن أمور منها:(الوقت، متى؟) ، ( المكان، أين؟ ) ( السبب، لِمَ؟ )، ( الحال والهيئة، كيف؟ )...إلخ. والنفي يتم بمفردات كثيرة، منها ليس، ولن، وما، وإنْ ولات،...إلخ.
فحصر هذه الأساليب، والمفردات المستخدمة فيها ممكن. ويجب على معدي المحتوى القيام بذلك، والوقوف على الصعوبات في كل منها ووضعها متدرجة، بما يتناسب مع المستوى العمري والنمو اللغوي للمتعلمين في كل صف. فإننا نلاحظ من جراء غياب ذلك أنّ كثيراً من المتعلمين لا يعرفون كيف ينفون أو كيف يؤكدون.
ح- إختيار النص: إن اختيار النص، أو تأليفه، يجب أن يتم بناءً على المعايير التي عرضناها في كلٍّ من المفردات والجمل. وإضافة إلى ذلك يجب أن يستجيب النصّ إلى معايير، ومنها:
1- أن يكون النصّ معبّراً عن ثقافة الأمة في جانب من جوانبها. وأن يبرز تراثها([26]). ويعرض أنماط الحياة فيها بما تحمل من قيم وعادات وأعراف في مختلف المجالات. ولا بدّ أن يكون مضمون هذا المعيار أحد بنود قائمة القيم التي سنبحث عنها في المحتوى الخاص بالصف الأول في كلِّ حلقة من مرحلة التعليم الأساسي.
2- أن يكون النص معبّراً عن واقع خَبِرَهُ المتعلم، أو يمكن أن يتعلَّم منه عن واقع جديد. وقد يعرض النص واقعاً متخيلاً، لكن عناصر هذا الواقع المتخيل الجديد يجب أن تكون معروفة من قِبَلِ المتعلم، أو يمكنه أن يتعرف عليها من خلاله.
3- أن تكون النصوص قادرة على نقل المعلومات والمعارف المحدّدة مسبقاً في المنهاج([27])، وإلا فالمتعلم اليوم لا يقرأ من أجل القراءة فحسب، فالنظرة إلى القراءة اليوم، أننا نقرأ لنتعلم. ولا نتعلّم القراءة، فالنص الذي يُكسِبُ المتعلمَ معارفَ وقيماً ومتعةً هو النص الذي يجب أن يبحث عنه معدو المحتوى.
4- أن يكون النص متماسكاً من حيث الفكرةُ الرئيسة، والأفكارُ الثانوية وتضافرها في خدمة الفكرة الرئيسة، ومن حيث سلامة العرض، والمفردات أو التعابير التي تمسك بالجمل لتحقيق وحدة النص([28])، وتبقي القارىء محتفظاً بترابط الأفكار والعلاقات، فتقوده إلى التفكير بالأسباب وربطها بالنتائج، أو تقوده إلى أن يستشرف ويتوقع. ومن هذه المفردات والتعابير، والتي عبروا عنها في المناهج الجديدة بـ( أدوات الربط) ([29]): بناءً على ما تقدّم – أخيراً - بما أن – لكنّ – أحرف العطف، مع أن ذلك، أي... إلخ. والجدير بالذكر أن أدوات الربط هذه، تُلِحُّ لجنة التقويم في السؤال عنها في الامتحانات الرسمية، لطلاب الصفين التاسع والثانوي الثالث.
نظرية التأليف ومنهجية بناء النصوص في كتاب القراءة للأول أساسي:
تعد نظرية التأليف، وتحديد المنهجية التي يبنى على أساسها النص، من أشدّ الأمور التربوية التصاقاً بالعملية التعليمية التعلُّمية، خاصة في نصوص الصف الأول، من مرحلة التعليم الأساسي. إذ المعتمد في غير هذا الصف، أن يبحثوا ويختاروا المناسب بناءً على محاور يحددها المنهاج. أمّا في الصف الأول فيغلب في كتب القراءة أن ينشىءَ المؤلفون النصوص وخاصة في المرحلة التي يحتاجون فيها إلى تعليم الطفل المهارات المتصلة بالحروف. وفي هذه الحال لا بدّ من نظرية يرتكز إليها المؤلفون. كما لا بد من منهجية يلتزمونها في بناء النصوص. إلا أنك لا تقف على نظرية تأليف متبناة، وليس في الدليل التربوي ولا في مقدمة كتاب التلميذ ولا في مقررات التدريب عبارة واحدة تشير إلى ذلك. أمّا منهجية بناء النص، فإنهم أغفلوا عمداً الكلام فيها، لأنها مبعث طعن، ومثار انتقاد. والمنهجية علم بيان الطريق والوقوف على الخطوات التي تقود إلى الغاية، على أفضل ما تقتضيه الأصول والأحوال. وليست المفاهيم إلا اللبنات التي تبنى بها المنهجية. ولا بدّ في كل عمل منهجيٍّ من عملية لتأصيل المفاهيم([30]). وتلك العملية لا يمكن أن تتم إلا من خلال منظومة فكرية تكون الحقيقة فيها في أعلى مراتبها. والحقيقة فيما عدا التي نحصلها من النص قطعي الثبوت، قطعي الدلالة، هي مضامين فكرية مؤيدة بوقائع في الوجود الخارجي، بشكل مستقل عن الإنسان...
والإنسان يجهد في تسليط فكره على الوقائع والموجودات وإعماله فيها، والمسلم يستعين بالوحي: كتابٍ وسنةٍ، ليدركها على حقيقتها، ليتعامل معها في حياته بأمثل ما يكون التعامل. ولا بدّ في ذلك من نظام دقيق وضوابط صارمة، يطلق عليها كلِّها ( المعرفة). وجوهر هذه المعرفة إذاً هي أن تكون تابعة للوقائع والأحداث والموجودات الكونية، وإلا فهي أخيلة وأوهام([31]).
ولا بد لهذه الرؤية، في العلاقة بين المعرفة والمنهجية من جهة، والمعرفة والواقع من جهة أخرى، أن يتمثَّلها التربويون، وخاصة في نصوصهم التعليمية. وفي مجال نصوص المحتوى، لا بدّ من تحديد العلاقة بين اللغة والواقع، الذي نعبر بها عنه. فباللغة نعبر عن الوقائع، والوقائع التي تحيط بالإنسان منذ وجوده الأول، لا شك أسبق منه وجوداً، فالله عز وجل خلق السموات والأرض قبل خلق الإنسان، ثم علّمه أسماء الموجودات كلِّها. إذ أقدره تعالى على اللغة بأصل خلقه وخصائص جِبِلَّته. قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ ﴿َإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[ البقرة : 2/ 29-30-31].فالآيات تفيد بمفرداتها وتتابعها أن خلق آدم كان بعد أن خلق الله تعالى الأرض بما فيها والسموات.. ثم علّمه الأسماء بفضله ومنّه.
وبناء على ما تقدم، نرى أن ينطلق المؤلفون من الواقع في تأليف نصوصهم لأطفال الأول أساسي خاصة، لا أن يكون الحرف المراد تعليمه، أساساً للمفردات، ثمّ ينتجون نصاً منها، فيضطرون إلى استحداث واقع مُتخيَّل، غير موجود ليطابق النصَّ الذي ألفوه.
فالانطلاق من الواقع الذي عرفه الطفل وخبِرَه وانتقلت علاقات عناصره إلى دماغه واستقر في ذهنه، وصار قادراً على تصوره، يعد أساساً تربوياً يجب البناء عليه، وذلك للأمور الآتية:
1- إنّ الإنسان عند ما يقرأ، لا يقرأ بعينيه وحدَهما، فإنّ ما في دماغه من صور للواقع الذي يقرأ عنه، ومن خبراته المتصلة به، ومن المفردات المتعلقة به، إنَّ ذلك كلَّه يسهِّل عملية القراءة عليه ويجعل المفردات تنساب انسياباً. إذ إن الطفل لا يحتاج معها إلا أن يتذكر صورة الواقع، ويقرن بين خبراته السابقة عنه بما تحمل من علاقة بين الأسماء والمسميات، فيستدعي الرموز المسموعة ويقرنها بالرموز المكتوبة.
2- كما أننا نجزم أنَّ هناك علاقة وطيدة بين التفكير المنظَّم والواقع المنظَّم. فالواقع كما خلقه الله تعالى منظماً تنظيماً دقيقاً، محكوماً بقوانين تخضع لها علاقات عناصره بأعقل ما يكون، وبأبهى صورة،لا بدّ أن يُكسب الإنسانَ الذي يعايش هذا الواقع تفكيراً منظماً يحاكي فيه تنظيم الواقع. فمن الوقائع والاحتكاك بها واكتساب الخبرات المستجدة، على أَساس المعلومات السابقة يتشكل عقل الطفل. فالنص المقلوب إذاً لا يساهم، بل يضاد تشكيلَ عقلٍ سليمٍ واعٍ.
3- إنّ بناء النص المقلوب، ينتج عنه بيئةٌ مبنيّة بناءً اصطناعياً متعسَّفاً. والعلاقات بين عناصرها مضطربة وغير طبيعية، وبالتالي تكون صورة الحياة فيه مشوَّهة، لا تشد المتعلِّم، ولا تقنعه ولا يميل للحياة معها. وبالتالي نحن لا نرى أي تفاعلٍ بين المتعلم وهذا النص المقلوب. وإنني أتساءل؟!!
ما مقدار مساهمة هذا النص المقلوب بتشويه عقول الناشئة؟؟ وما مدى علاقته بالمستوى اللغوي الهابط؟!! وبالتالي أليس هناك علاقة بين هذه النصوص المقلوبة الحافلة بوقائع غير مفهومة، والعلاقات فيها مضطربة مصطنعة بهذا السيل من الشعر الحديث ببيئته غير الطبيعية، وعلاقات نصوصه المفككة، وصوره البيانية المستعصية على الفهم؟!!
4- لغة النص المقلوب، كما تقدم، لغة غير طبيعية، لأنّهم يعبرون بها عن واقع غير طبيعي. فكأني بعين القارىء تتأذى، وكأنها تنتقل بعسر فوق أكوام من الحجارة المتنافرة، وكأني بأذن السامع تحاول إقفال قناتها هرباً من النشاز المنبعث من المفردات المخلوطة خلطاً عجيباً. هذا فضلاً عن غياب تماسك النص، فجملُهُ مفككة، يجهد القارىء في إيجاد علاقة بينها.وبنية السرد في النصوص مفقودة، لذلك لجأ المؤلفون إلى استخدام مفردة (( فجأة )) وكأنها أداة نجاة، عندما تضطرب بنية السرد. وقد تكررت هذه المفردة في عدة نصوص يرجى العودة إليها([32]) للوقوف على بنية السرد المربَكة، وإن استخدام كلمة ((فجأة)) لم تخفف من هذا الإرباك بل كشفته أكثر. فيورث ذلك كلُّه إقلاعاً عن القراءة. فأنّى لمتعلمينا أن يُقبلوا على المطالعة؟!! فاللذة والمتعة غيرمتأتيتين لهم، ولا يحصّلونهما من هذه النصوص. ولتوضيح ما تقدّم وفهمه، سنعرض منهجية تأليف النص المقلوب، وسنعرض بعض النصوص من كتاب الأول أساسي.
يتبع فريق العمل في إعداد النص المقلوب الخطوات الاتية:
1- تحديد الحرف الذي سيكون هدفاً تعليمياً مباشراً. مثل:( ث ) و( س).
2- رصد كلمات فيها أحد هذين الحرفين، والتكلف في حشر كلمات تضم الحرفين معاً. فيضعون قوائم لهما في جميع الحالات التي يأتي فيها الحرف في أول الكلمة ووسطها وآخرها، مع الحركات الثلاث والسكون ومع أحرف المد. وذلك على الشكل الآتي:
ثَ : ثعلَبُ – حرثَ – مُثلث – عَثَرَ – ثَلج.
ثا : ثابت – لِثام – ثائر - ثار
ثُ : ثُعبان – ثُلَّة – ثُمَّ – يحرثُ.
ثو : ثُوم - بثور – يثور .
ثِ : ثِياب –
ثي : حثيث – محراثي – مثلثي.
ثٌ : مثلثٌ – محراثٌ – غيثٌ .
ثٍ : مثلثٍ – محراثٍ – غيثٍ.
ثاً : مثلثاً - محراثاً – غيثاً.
والمنصف يرى أنّ لا علاقة بين مسميات هذه الأسماء، ولا تجمعها بيئة واحدة طبيعية. فلا بد من اللجوء مع هذه المنهجية إلى تأليف نص مصطنع ولا صورة له في ذهن المتعلّم.
ومما يزيد الطين بلّة أن مؤلفي كتاب القراءة للأول أساسي، قسموا المهارات اللغوية إلى ثلاثة مستويات:
1- المستوى الأول: نشاطات ممهدة لعمليتي القراءة والكتابة، وأفردوا له دفتر نشاطات خاصاً به. ولم يعرضوا فيه أي حرف من حروف العربية. واكتفوا بالسماع والحوار، وبالرسم والتلوين.
2- المستوى الثاني: تعلّمُ حروف اللغة العربية، المحور التمهيدي، وعرضوا من خلاله عدداً من الحروف والمهارات المتعلقة بها وهي (ر – د – ز – ب – ط – و ) وفي القسم الأول من هذا المستوى والخاص بهذه الحروف، لا تعثر على نص في كتاب الطفل، وإنما اكتفوا بقصة أُثبتت في الدليل التربوي، وببعض النشاطات في دفتر التمارين، وهذا ليس كافياً ليتمكن الطفل من هذه الحروف والمهارات المتعلقة بها في مختلف المواقع. لذلك حاولوا توظيف مفردات القائمة المبنية على تلك الحروف، في القسم الثاني من هذا المستوى الذي خصّص لتعليم بقية الحروف.
3- المستوى الثالث: هو مرحلة القراءة الفعلية التي ترتكز على تحقيق أهداف تكوينية وتعليمية لغوية([33]). فجاءت النصوص في القسم الثاني، خاصة، حافلةً بمفردات متنافرة، وتفوح منها رائحة التكلف، ولا حياة فيها، والمتعلّم خارجها. وإليك بعض الأمثلة :
_ ربط بدرٌ البطَّ . ص: 15 من دفتر التمارين. ومتى كان البط يربط؟
_ دزَّ _ رزَّز . ص:10 من دفتر التمارين. وهل نحن بحاجة لهاتين المفردتين لنعزز الحرف (ز) مع الشدّة ؟!
نص الدرس الأول:
_ في الوادي طيور. يطير الطير في الوادي. في الوادي زيز. يطير الزيز في الوادي. بسط ياسر البساط في الوادي. على بساط ياسر زيز يدُب ويطير. [كتاب التلميذ - القراءة العربية ص: 15].
أولاً: لاحظ نفور كلمة زيز، والتي حشرها المؤلفون خدمة للحرف(ز) مع الياء( زيـ).
ثانياً : هل يهدف المؤلفون إلى إخبار الطفل أنّ في الوادي طيوراً وزيزاً؟! وأن الطير والزيز يطيران في الوادي. وكأنّهما في غير الوادي لا يطيران. وفي الجملة الأولى، طيور، وتصبح في الجملة الثانية الطير.
ثالثاً: لاحظ استعمال كلمة ( يدبُّ) فهي أساساً ليست من مستوى الطفل. ثم أردفها بكلمة (يطير). فصارت كأنها مرحلة من مراحل الطيران، أو لازم من لوازمه. وصار معناها في ذهن الطفل مرتبطاً بالطيران. وعندما سألنا الأطفال: ما معنى يدب ويطير؟ جاء الجواب يرفرف ويطير.
نص الدرس الثالث:
زار شادي ورشاد دار رشيد. شرب شادي الشاي. وشرب رشاد ورشا شراب الورد. زرب شادي البط وربط الباب. [ كتاب التلميذ _ القراءة العربية ص:17]
نص الدرس الرابع:
زار وجدي وراجي دار جدّي. في دار جدي دجاج. جدي يربِّي الدجاج.
سار راجي وسط الشجر. وجد راجي الدجاج. شد راجي ريش الدجاج. طار الدجاج على الدرج.
والناظر إلى هذه النصوص، يعي أنّها مؤلفة خدمة لحروف محددة. ولأن الحروف ( ب _ ز _ ط) لم تفرد لها دروس، فقد عمدوا إلى حشر كلماتٍ تحتوي عليها في هذين النصين.
_ فمن أجل الباء والطاء أوردوا (بَسط) الباء مع الفتحة. و( بِساط ) الباء مع الكسرة. وإحداهما تنتهي بطاء متصلة بما قبلها. والثانية تنتهي بطاء غير موصولة ولأنهم يريدون كلمة تنتهي بباء غير متصلة أقحموا ( يدبُّ ) مَعَ ما تحمل من غربة عن قائمة المفردات الشائعة بين أبناء هذا العمر الزمني لأطفال الأول أساسي.
_ أما في النص الثاني، فإنهم عمدوا إلى جعل النص ميداناً لمراجعة الحروف ( ر _ ز _ ب _ ط ) إضافة إلى المهارات المتعلقة بالحرف الجديد ( ش). فجاء كما ترى يشكو المتعلم فيه من(الشنشنة والبأبأة _ والرأرأة...) ويكفي أننا نحن الكبار، نستثقل جداً جملة (شرب رشاد ورشا شراب الورد). وكنت أظنهم سيقولون شراب (الشوش) بدلاً من السوس حتى يرضى الحرف ( ش) ؟!!
_ أما في النص الثالث فلا نعرف المتكلّم. ويجد راجي الدجاج وسط الشجر، ثم عندما يشدّ ريش الدجاج، نجده على الدرج. وما علاقة راجي ووجدي بجد المتكلم؟! فإضافة إلى غياب تماسك النص لغوياً، فالجمل مفككة، وليس هناك أداة ربط واحدة في النص، فهو غير متماسك من حيث المعاني والمضامين أيضاً فكأن النص جملٌ لكل منها معناها المستقل ولا علاقة تربط بينها.
والبديل عن هذه المنهجية في التأليف، هو أن ننطلق من الواقع والبيئة ونعبر عنهما وعن العلاقات بين عناصرهما بلغة فصيحة بسيطة، تعتمد أساساً المفردات التي اعتاد الطفل سماعها، ومارس نطقها في تواصله مع محيطه. فيأتي النص طبيعياً واقعياً حافلاً بالمفردات التي ألفتها آذان الأطفال، ونطقتها ألسنتهم. ولا بأس في تضمين النص مفردة، أو عبارة جديدتين شرط أن تكونا سهلتين من حيث قبول المتعلّم لهما، ومن حيث قدرته على توظيفهما انطلاقاً من حاجته إليهما مستقبلاً.
وقد قمت مع فريق عمل بتأليف سلسلة أسميناها( لغتي الجامعة) واعتمدنا هذه المنهجية والتزمنا الخطوات الآتية في التأليف. مع الإصرار على التزام الفصحى. والأخذ بعين الاعتبار واقع لغة الطفل المحكية.
1- تحديد البيئة أو الواقع الذي سنتكلم عنه: ( الأسرة _ المنزل _ المدرسة_ عيادة الطبيب...إلخ).
2- تحديد أهم المفردات المستخدمة فيهما.
3- تحديد أهم العبارات المتداولة عنهما.
4- دراسة المفردات العاميَّة الشائعة في تلك البيئة أو الواقع ( البيت _ الحديقة _ المدرسة_ الشارع ...إلخ). واختيار الأقرب إليها من الفصحى.
5- اختيار مفردة أو عبارة، أو أسلوبٍ وفق معايير الشيوع والقدرة على تعلُّمها، والحاجة إليها، وتوظيفها، وفق الاستجابة لخصائص العربية...إلخ، وبثها في النص، مع ما يلزم من المحافظة على طبيعة النص وضرورة مجانبة التكلُّف والحرص على تماسكه...إلخ.
6- تحديد المعارف والمفاهيم الممكن إبرازهما فيها.
7- تحديد المواقف والممارسات الإنسانية السلبية والإيجابية تجاه هذا الواقع.
ثم اخترنا أن يكون المحور الأول هو بيئتا البيت والمدرسة. ورصدنا نشاطات الطفل، وعلاقاته الاجتماعية فيهما،كما رصدنا أبرز العناصر في البيت والمدرسة وعلاقة طفل الأول أساسي بها... وقام أعضاء الفريق بكتابة عدّة نصوص للتعبير عن الطفل بنشاطاته واهتماماته وعلاقاته في كلٍّ من البيت والمدرسة، والعلاقة التبادلية بينهما. وعندما صارت النصوص جاهزة، قمنا بدراستها من حيث صلاحيتها لتكون ميداناً لتعليم الحروف، والمهارات المتعلقة بها. فوجدنا أنّ في الدرس الأول يكثر دوران الحرفين ( الميم ) و (الراء).... ولم يكن أحد من فريق العمل يتوقع البدء بهما. وسألنا أنفسنا، أمجرد صدفة أن يكون هذان الحرفان أول ما ندرِّسه للأطفال من الحروف؟! وللجواب عن السؤال بحثنا عن تكرار الحروف في القرآن الكريم، فجاءت الإجابة أنهما من أكثر الحروف دوراناً في القرآن الكريم. واطّلعنا على عدد الصفحات في أمهات المعاجم مثل اللسان والصحاح، فكان عدد الصفحات المخصصة لهما أكبر مما خصّص لغيرهما. فأيقنا أنّ هذا جاء نتيجة الانسجام بين الواقع واللغة التي نعبر بها عنه، واستجابة لنمو العلاقات الاجتماعية للطفل في هذا العمر، ولمجمل نشاطاته من جهة، ولنموه اللغوي من جهة ثانية، وموافقاً لطبيعة العربية وخصائصها. ولا يتسع المجال هنا لتفصيل ذلك كلّه. ونحيل القارىء إلى مقارنة النص المقلوب بالنص الطبيعي. ليقف على الفروقات بينهما؟؟ وإن اعتماد النص المقلوب يعد تخلياً عن أهم القيم التربوية، عنيت حق المتعلم في أن يرى الواقع بما فيه، وكما هو، وكما خبره من قبل، في النص الذي أعِدَّ له، ليتسنى له توظيف خبراته، وقراءة النص من خلال ما انتقل إلى دماغه من صور هذا الواقع وتفاعل عناصره، لا أن نحمله على أن يُجهد نفسه وعينيه في فك رموز صور الكلمات، وإدراك العلاقات بينها، ليتمكن من رسم صورة للواقع المصطنع في ذهنه.
وبالطبع، إن اعتماد تلك النصوص ينتج عنه لغة ضعيفة مفككة، كما ينتج عنه بناء نماذج لغوية فاسدة ضعيفة، مرتبكة في دماغ المتعلّم، وبالتالي فإنّه سيقيس فيما بعد على هذه النماذج. فكيف ستكون لغته؟ وكيف ستكون قدراته الفكرية؟! إضافة إلى ما تساهم به هذه النصوص من حرمان المتعلم من لذّة المطالعة. وبالتالي، فهي تبعده عن الكتاب. وهذا كلُّه من أسباب عدم إقبال طلابنا على المطالعة بل نفورهم منها.
No comments:
Post a Comment