المبحث الثامن: أساس المنهج ودعائمه :
لقد بيّنا في مبحث مفهوم التربية الإسلامية، أنّ للتربية أساساً واحداً، هو أنّها نابعة من عقيدة الإسلام، خاضعة لشريعته. لكن لها سماتٌ عديدةٌ، عدّها بعضهم من الأسس، وما هي إلا سمات. وكذلك الأمر في المنهج، إذ هو فرع من فروع التربية خاضع لما تخضع له.
ولقد درج الدارسون والباحثون في معرض كلامهم عن المنهج أَن يفردوا مبحثاً خاصاً عن أسسه. وإنّنا نرى هنا أيضاً أنّ للمنهج أساساً واحداً هو الإسلام عقيدةً وشريعةً، وفي هذا الأساس تنغرس عدة دعائم، يقوم عليها المنهج . وهذه الدعائم كلها تعود إلى ذلك الأساس. ويمكننا أن نقول: إنّ أساس المنهج التربوي المدرسي الإسلامي يجب أن يقوم على المنهج الربّاني، هذا المنهج الذي عانت الأمة وما زالت من جرّاء ترك التربويين له، وانسياقهم وراء مصادر ونظريات تربوية بشرية يأخذون بها وينطلقون منها، فلم يعد المنهج في مختلف جوانب حياتنا هو منهج الله تعالى، عقيدةً وشريعةً، ومصدراً للفكر والتصورات والحلول... ولم يُعتمد عليه في البناء والتكوين والتخطيط، فنشأ أبناء الأمّة على مناهج غريبة، فإذا عرضت لهم قضية، أو واجهوا مشكلة، ردّوها إلى ما نُشِّئوا عليه من تصورات وتجارب بشرية ([1])، وهذه كلّها تكون مشوبة بالقصور والرغبات والظروف الخاصة، ومحكومة غالباً بالهوى. فأنّى لنا ان نفلح؟! وأنّى لحلولنا أن تصيب؟!! لذلك لن نعرض أسس المنهج أو نتكلم عنها كما اعتاد ذلك الكثيرون من التربويين حيث يجعلونها في الغالب ثلاثة أسس هي([2]):
1- الأسس الفلسفية.
2- الأسس الاجتماعية.
3- الأسس النفسية.
ومنهم من يخصص المعرفة فيجعلها أساساً رابعاً([3]) بينما يجعلها الآخرون جزءاً من الأساس الاجتماعي. ومنهم من اعتمد مصطلح الأركان بدلاً من مصطلح الأسس، وجعل لكل ركن مبادىء.
ولكنّنا سنتكلم عن دعائم المنهج المرتكزة إلى أساسٍ واحدٍ صلبٍ متين، واسع، يثبِّتُ هذه الدعائمَ كلَّها فيثبُتُ البناءُ المنهجيّ ويستقيم. عنيت بهذا الأساس، الرؤية التي يتبناها واضعو المنهج، عن الكون والحياة والإنسان وعن العلاقات بين المخلوقات... الخ. وهذه الرؤية عندنا منبثقة من الإسلام عقيدة وشريعة، وعند غيرنا قد تنبثق من فلسفة إلحادية ماديّة، أو من أخرى مثالية، أو.. أو... الخ.
ولمّا كنّا قد تكلمّنا عن أساس التربية وسماتها فليس من داعٍ للكلام عنهما هنا لأنّ أساس المنهج هو أساس التربية، وسمات التربية هي سمات المنهج. وسنجمل القول في دعائم المنهج وهي :
أولاً: الدعامة السياسية : إنّ العلاقة بين السياسة والتربية هي العلاقة نفسها بين النظرية والتطبيق، وهي كالعلاقة بين الماء والبخار، الذي هو حالة من حالاته، فكما أنّ الماء يتعرّض للحرارة فيتبخّر، ثم يصادف برداً فيعود ماءً، هكذا الحال بين التربية والسياسة. فالتربية لا بدّ لها من أجواء( مؤسسة سياسية) لتنتج سياسة سليمة عبر تربية سياسيين، ثم السياسة عبر مؤسساتها وتشريعاتها تعود بالنفع على التربية وهكذا دواليك.
فمن الأساس الذي هو تصّور عن الكون والإنسان والخالق عزّ وجلّ... الخ. تصدر التربية ويسعى التربوي إلى تطبيقها، وتطبيق التربية بنظرياتها وبما يلزمها من قوانين وأجهزة إدارية، في العصر الحاضر خاصة، هو من مسؤوليات السلطة السياسية. فبقدر ما تكون السلطات السياسية حريصة على سلامة التطبيق، فتزود السلطاتُ السياسيةُ التربيةَ بما يلزمها، يظلّ التفاعل بين التربية والسياسة يرتقي بالحياة الاجتماعية في المجتمع الإنسانيّ، فيقترب من المنهج الربّانيّ في التربية الإسلاميّة ، أكثر فأكثر.
لكن واقع الحال في بلادنا أنّ التربية لم تتبنَّ تصوراً نابعاً من عقيدة الأمّة وفكرها. ولم تحتضن المؤسساتُ السياسيةُ النظريةَ التربويةَ التي تناسب أبناء الأمّة. وبالتالي أصبحت العلاقة معكوسة. فالأنظمة السياسية تفرض منهجاً تربوياً، غالباً معادياً، كالاشتراكية أو الديموقراطية...إلخ فتفشل العملية التربوية في مد هذا المجتمع حتى بعناصر تفكر اشتراكياً أو ديموقراطياً. فالمنهج المدرسي يتأثر اكثر ما يتأثر بالسياسة، فقيام نظم تربوية خاضعة لسياسات قوميّة، أو وطنية قطرية أو إقليمية، ستقصّر حتماً عن بلوغ أهداف التربية الإسلاميّة. فالدول العربية بنظمها التربوية تحاكي النظم الغربية وخاصة نظام التعليم المركزي الفرنسي الذي يُعد أول نظام تربوي تعليمي قومي قام بعد الثورة فيها عام( 1789). وتتمثل قراراتِ اليونيسكو وتوصياتها، وخاصة نتائج الدراسات التي كلفت بها تلك المنظمة عدداً من الباحثين والدارسين لإجراء دراسات وبحوث خاصة تحت شعار " إنسان جديد لمجتمع جديد " وكان ذلك في العامين (1971) و(1972). وكذلك تستسقي من نتائج التقرير الدولي، الصادر عن اللجنة الدولية التابعة لتلك المنظمة، والمكلفة صياغة تقرير مفصل عن (استراتيجية) التطوير التربوي، على الصعيد العالمي، والتي دعت فيه إلى العناية بأبرز المعالم والطرق التي يمكن أن تتخذها الدول نبراسَ هداية، في وضع استراتيجياتها التربوية، ابتغاء تحقيق تغيير أو تطوير جذري في نظمها التعليمية.
وإنّ عودة لقرارات اجتماعي جنيف سنة(1975) وباريس سنة(1976) المنعقدين بناء على قرارين صادرين عن المؤتمر العام لليونيسكو في دورته الثامنة عشرة، وغيرها من قرارات تلك المنظمة من مثل: المؤتمر التربوي الثاني والثلاثين، المنعقد في جنيف سنة (1981) وقرارات مكتب اليونيسكو الإقليمي للتربية في البلاد العربية، والندوات وحلقات البحث التي نظمها، وخاصة في بيروت بين 28/11 و 1/12/1977. وفي القاهرة من 21 إلى 24/10/1978. وكذلك العودة إلى قرارات مؤتمرات وزراء التربية العرب من مثل مؤتمر بغداد سنة (1964) والكويت سنة (1968) وصنعاء سنة (1972) والحلقة الدراسية لتوحيد أسس المناهج في البلاد العربية التي عقدت في القاهرة سنة (1965) ([4]). إنّ العودة إلى قرارات تلك المؤتمرات وحلقات البحث تنبىء عن أثر السياسة في التربية وسنكتفي بعرض بعض هذه التأثيرات ومنها:
_ إن التربويين الذين يمثلون حكوماتهم العربية، ينقلون إلى تلك المؤتمرات رؤى حكوماتهم السياسية، وبالتالي يحملون إلى هذه المؤتمرات التربوية خلافات حكوماتهم.
_ إن التباين في أنظمة الحكم بين مختلف الدول العربية، من اشتراكي، إلى جمهوري، إلى ملكي... إلخ لا بدّ أن يلقي بثقله على مقررات تلك المؤتمرات. وستكون المؤسسات السياسية مرآة للواقع التربوي. والأصل أن تكون السياسة انعكاساً للمرآة التربوية، ونقدم على ذلك مثالاً من ميثاق الوحدة الثقافية الذي صدّق عليه أعضاء المؤتمر الثاني لوزراء التربية العرب، في بغداد عام (1964). فقد جاء في المادة الأولى منه، أن هدف التربية والتعليم هو : (تنشئة جيل عربي واعٍ ومستنير، مؤمن بالله، مخلص للوطن، يثق بنفسه وأمته، يدرك رسالته القومية والإنسانية، ويتمسك بمبادىء الخير والحق والجمال، ويستهدف المثل الإنسانية العليا، في السلوك الفردي والجماعي ، وتنمية شخصيات هذا الجيل تنمية متكاملة بجوانبها كافة،... وأن يملكوا إرادة النضال المشترك، وأسباب القوة والعمل الإيجابي متسلحين بالعلم والخلق، كي يسهموا في تطوير المجتمع العربي والسير به قدماً في معارج التطور والرقي، وفي تثبيت مكانة الأمة العربية المجيدة، وتأمين حقها في الحرية والأمن والحياة الكريمة).
ونلاحظ أثر تلك المرحلة السياسية التي كانت طافحة بالمشاعر القومية. وكان على رأس تلك المرحلة جمال عبد الناصر، كيف تلقي بظلالها في هذا المؤتمر من خلال هذا النص: ( جيل عربي) ( الأمة العربية المجيدة ) ( يدرك رسالته القومية ) ( النضال المشترك)... الخ.
وبالمقابل كأنّ هذه الأمة، من خلال هذا النص، لا علاقة لها بالإسلام. ولولا عبارة ( المؤمن بالله) لكان من الممكن اعتماده من قبل أي نظام سياسي ملحد. ونلاحظ أيضاً عبارات فضفاضة من مثل:( مبادىء الخير والحق والجمال) و(الحرية والحياة الكريمة) والتي لا ترتبط بفكر، اللهم إلا بترهات وشطحات الفلاسفة، والمصلحين الاجتماعيين الذين لا علاقة لهم بوحي السماء، حيث لا تحديد لهُوية الخير، أو الحق، أو الجمال، وكذلك لا هُوية للحرية والحياة الكريمة. وهكذا سيكون هذا المواطن العربي الذي يريدونه، شخصيةً بلا هُوية ينعق معَ كل ناعق، خاليَ الوفاض في معركة الفكر والحوار معَ الآخر، وقلِقاً داخلياً، غيرَ منسجم معَ تراثه، غيرَ واعٍ لحاضره، ولا يمكنه استشراف مستقبله. والمطلوب أَن تكون سياسة التعليم الإسلامية هي تكوين العقلية الإسلاميّة والنفسية الإسلامية التي يصدر عنهما معاً الشخصية الإسلامية.وذلك لا يتحقق إلا إذا كان الأساس الذي يقوم عليه منهج التعليم هو العقيدة الإسلامية([5]).
إنّ سياسة التعليم في أي دولة، ليست منفصلة عن سياسة الدولة العامة، ولا عن منطلقات الفكر السياسي المؤسس لها. ولا بدّ لدستور أي دولة من فصل خاص أو مواد عِدّة تحدّد المبادىء الأساسية للتربية وكذلك مفاهيمها العامة وأهدافها([6]).
فالمملكة العرية السعودية مثلاً، اعتمدت ما أسمته( وثيقة سياسة التعليم). ومما جاء فيها، أن غاية التعليم فهم الإسلام فهماً صحيحاً متكاملاً وغرس العقيدة الإسلامية ونشرها، وتحقيق الخلق القرآني في المسلم([7]).
وتبقى آليات تنفيذ المنهج والسهر على تطبيقه وتقويمه وتطويره، وإلا أصبح كالنوتة الموسيقية التي لا يلتزم بها العازف فتأتي مقطوعته بجملها ولحنها شيئاً آخر. فالدعامة السياسية في المنهج هي الأولى، أو قل إحدى الإطارات الأربعة التي تقوم عليها السيارة فإذا تعطلت توقفت السيارة، رغم أن الاطارات الثلاثة الأخرى تكون صالحة. مَعَ اعتقادنا أن فساد السلطة السياسية فكراً أو ممارسة يتعدى إلى إفساد مجالات أخرى.
ويصعب على الدعائم الأخرى من ثقافية وعلمية واجتماعية...أن تصمد متجنبة أثر الفساد السياسي. وليس أدلّ على تأثُّرِ التربية عامة والمنهج خاصةً بالسياسة من الواقع اللبناني، المتعدد بطوائفه المتنافسة على مواقع السلطة التي تؤمِّن لها حصة أكبر من الثروة، متخذة المؤسسات التربوية وسيلة لتحسين أوضاعها، هذه الطوائف قد سارعت إلى إنشاء المدارس وتقديم الخدمات التربوية، وذلك من جملة أمور قامت بها للتقدم على غيرها في شتى المجالات.([8]) رغم أنّ هذه المدارس تخضع لسياسة الدولة في مراحل التعليم والنظم التربوية وتنفيذ مضمون المنهج، إلا أنّ ما يصطلح على تسميته المنهج الخفي، يفعّل دوره بقوة، وسينحرف كلّ منها بالأهداف العامة، أو يلوي عنقها لتنتج إنساناً ينسجم مع منظومتها الفكرية، والقيمية وانتمائها... فالتربية لا يمكنها أن تكتفي بالفلسفة، أو المنطلقات، ولا برسم الأهداف، فإنها تحتاج إلى سياسة تعليميّة، تحدّد المسارات ومراحل التعليم والأنظمة والقوانين وآليات التنفيذ،([9]) وذلك كُلَّه يجب أن ينطلق من المنظومة الفكرية للأمة.
ومن مصائب التربية في المنطقة العربية من العالم الإسلامي خاصة، وفيه عامة، دول التجزئة، فلكل منها، حسب ما تدَّعي ، رؤية تربوية، ولا بدّ لهذه الرؤية أن تخضع للسلطة السياسية([10]) ، أيضاً حسب ما تدعي من رؤية سياسية، وتحت دعوى مراعاة خصوصية القطر، تفقد العمود الفقري الأساسي الذي يجب أن ينتظم مجتمعاتها الإسلامية في المنطقة العربية. وإنّنا نرى أنّ اشتمال مناهج تلك الدول على نقاط مشتركة، سيكون مدخلاً مهماً من مراحل توحيد أبناء الأمة في كيان واحد. وأنّ الكفاءة الداخلية لنظم التعليم تكون من مسؤولية السياسة التعليمية، وأهم ما تقاس به هذه الكفاءة هو نوعيّة التعلُّم الذي يحصِّله المتعلّم الخاضع لهذا النظام([11]).
ومن الإشكالات التي يجب أن يُلتفت إليها، في بناء المناهج خاصة، وفي النظام التربوي الإسلامي عامة، مسألة مركزية أو لامركزية النظام التربوي. فالعالم الإسلامي المترامي الأطراف، المتعدد الأعراق، المتعدد اللغات، المتنوع الثقافات، المتفاوتة مناطقه بمصادر الثروة والإمكانات...إلخ. لا بدّ لقادته أن يراعوا ذلك كُلَّه في بناء نظام تربوي. فقد لا يناسب أمتنا النظام المركزي المعتمد في فرنسا ولا النظام اللامركزي المعتمد في الولايات المتحدة الأمريكية. ولا بدّ للبحث عن نظام تربوي يناسب واقع المسلمين في عالمهم الإسلامي هذا، بما يضمن حرية التربية الإسلامية واستقلالها. فقد عاشت التربية الإسلامية، في كل أنحاء العالم الإسلامي حريتها واستقلالها، تحميها مكانةُ العلماءِ ودورُهم، هؤلاء العلماء الذين كانت حريتهم مصانةً، واستقلالهم تاماً، باعتمادهم على أنظمة الأوقاف، ونظام الأحباس([12]) والذي كان يؤمِّن التمويل اللازم لنفقات التربية، ولمجَّانية التعليم([13])، وقد ظهر تنوعٌ في مناهج التعليم، وتعدّد وتغايرٌ في مواد التعليم، والطرائق والأساليب، استجابة لخصائص البيئات الاجتماعية بما فيها من عوامل، اقتصادية وعلمية وثقافية... إلخ. إلا أنّ الرؤية التربوية الإسلامية العامة ظلت تهيمن على تلك الأنظمة وتسيرها، وتشكِّل ضمانة لها من أي انحراف، فهذا النوع من النظام اللامركزي من جهة والمنضبط بأصول الإسلام من جهة أخرى، ظل مميزاً في حماية حرية العلماء، وإعلاء مكانتهم، ومساعدتهم على أداء رسالتهم دون أن يتقيدوا بنظام سياسي أو بسياسة حاكم([14])، وكانوا يلتزمون الإسلام منهجاً.







![]() | |||||||
![]() | |||||||
![]() | |||||||
![]() |
ثانياً: الدعامة العلمية:
إلى جانب الدعامة السياسية، تنتصب الدعامة العلمية. والعلم ما لم يكن محكوماً بقيم إنسانية فإنّه يتفلَّت من عقال العقل، ويصبح نهباً للأهواء والأطماع. والمسلمون يعتقدون أنّ من أول ما تلقاه آدم عليه السلام هو العلم ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [ البقرة 2/31 ] واستحق بإذن الله أن يسجد الملائكة له إكراماً لما تعلمه من الله تعالى. وأبى إبليس بجهله الذي أورثه رفضاً واستكباراً وكفراً ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [ البقرة : 2/34].
وأول ما نزل على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، قوله تعالى ﴿إقرأ ﴾، ولكن القراءة يجب أن تكون باسم الله الخالق، الأكرم الذي علّم الإنسان بالقلم ما لم يعلم. ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ ﴿َخلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴾ ﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ ﴾ ﴿ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ ﴿ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق:96/ 1-2-3-4 ]. فالعمليَّة التعليميّة التعلميّة الأولى في حياة الإنسان، كانت من الله عزّ وجل معلما، إلى آدم متعلّماً. وكأنّ ذلك إشارة إلى توأمة لا انفكاك لها بين الإنسان وتعلّمه. فإنّ الإنسان يرتقي في مراقي الإنسانية بقدر ما يتعلّم . إنّ هذه الآيات أقامت في التصور الإنساني تصوراً للحياة والوجود والقيم، وكانت فرقاناً في تاريخ البشر جميعا، وليس في تاريخ أمتنا أو في جيل منها. كما أَبرزت بوضوح أَن مصدر العلم هو الله تعالى وأنه هو الذي أقدر الإنسان على التعلُّم، في كل ما يُفتح له من أسرار هذا الوجود، ومن أَسرار هذه الحياة، ومن أسرار نفسه، فذلك كُلَّه من المصدر الواحد الذي ليس هناك مصدرٌ سواه. ([15]) وهدف الإنسان تحقيق العبودية لله عز وجل ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [ الذاريات51 /56 ] ولا يتحقق له ذلك إلا إذا كان على هدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأَمر بالتقوى﴿أرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى﴾ ﴿أوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى﴾ [العلق: 96/11-12 ] ورفض طاعة الجهل المتمثل بأبي جهل الذي نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الصلاة معتداً بقوته وناديه ([16]) ،فإذا تم له ذلك مطمئناً لحماية الله تعالى له ﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ [ العلق : 96/18] سجد واقترب ﴿ كَلا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾ [ العلق : 96/19] .
إذاً في التصور الإسلامي لا بشريّة ولا إنسانيّة من غير علم وتعليم وتعلُّم. بل لا عبادة من غير علم، والأكثر خشية لله تعالى هم العلماء﴿...َمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [ فاطر35 / 28 ]. لذلك لا بدّ للمنهج المدرسي الإسلامي من دعامة أساسية هي الدعامة العلميّة.
والعلم توسعت اهتماماته توسع الحياة، وتعددت الاختصاصات حتى داخل العلمِ الواحد، فعلوم الطب اختصاصات، وعلوم الهندسة، والفيزياء... وغيرها كذلك. _ وبين يدي الكلام عن الدعامة العلمية في المنهج، لا بدّ أن نشير إلى وحدة العلوم من حيث اعتبارها علوماً إسلامية، فالتقسيم الغربي للعلوم قائم على فصل الدين عن الحياة، أما الحياة في الإسلام فخاضعة بتفاصيلها كُلَّها للمنظومة الإسلامية، عقائدَ وشرائعَ. ومن العلوم التي يجب أن تكون حاضرة في هذه الدعامة بشكل خاص:
أ- العلوم التي ميدانها جسد الإنسان وسلوكه: والتي بها تعرف مراحل نموه، وخصائص كل مرحلة. وخاصة نمو دماغه، لمعرفة ما يناسب قدراته التعلّمية عامة، والتي تحتاج إلى نمو عضوي محدد خاصة. وللوقوف على علاقة العمر الزمني بكلٍ من نموه العضوي والعقلي، وأثر ذلك على سلوكه. فكما أنّ النمو متدرّج، ويخضع لعوامل مثل الزمن والغذاء والمحيط الاجتماعي والبيئة الطبيعية، فإنّ المناهج يجب أن تكون متدرجة تراعي ذلك كُلَّه.
ولقد دأب الدارسون التربويون، على جعل ما يطلق عليه علم النفس من أسس المنهج. ونحن نرى أن الإنسان وحدة متكاملة، جسداً ونفساً. ولما كانت النفس لا تخضع لقواعد البحث العلمي، نرى أن نطلق على تلك المباحث علم السلوك الإنساني. كذلك نرى أنّه مرتبط بعلوم جسده إلى حدٍ كبير. فالجسد واحدٌ ولا يتأثر بالطريقة نفسها، ولا تأتي النتائج نفسها. فكم من شخص يتناول طعاماً محدداً فيُحدث له سِمَناً، بينما يتناوله الآخر فلا يحدث له ذلك، فكيف يمكن أن تعمّم نتائج الدراسات النفسيّة، والنفس تتأثر بما أُلهمت، من تدسية وتزكية وحسد وكرم... إلخ.
فالمنهج يجب أن يوظف نتائج أبحاث علماء السلوك، جنباً إلى جنب مع خصائص أبحاث علماء الجسد، والمدرسة الإسلامية العلمية يجب أن توحد جهود العلماء في هذين المجالين، وتصدر بهما عن فهم الإسلام للإنسان جسداً ونفساً، إلى جانب الروح، والتي ليست مجال بحث في دائرة العلوم الإسلامية فهي من أمر الله تعالى.
فخصائص نمو المتعلم، وطبيعة العمليِّة التعلُّمية . وكيف يعمل الدماغ، وقدرة المتعلِّم على التركيز والانتباه، وحاجاته، وعلاقة الحواس بالانتباه، عبر نقل الوقائع المادية الخارجية إلى الدماغ، وكيف تعمل أجزاؤه ومناطقه وفصوصه… إلخ. ذلك كُلُّه يجب أن يُراعى في بناء المناهج ، من اختيار المواد بمضامينها، والوسائل المناسبة والفعالة وطرائق التعلِّّم، إلى بناء النشاطات التي تُعدُ للمتعلِّم، سواء في الصف أو خارجه. إلى ما يجب أن يصاحب ذلك كُلَّه من توجيه وإرشاد، وفهم لحاجات المتعلم وميوله وقدراته، إضافة إلى الاهتمام بالفروق الفردية: الجسدية، والنفسية والاجتماعية، وخاصة تلك التي لها انعكاس على سلوك المتعلّم.
يبقى أن أشير إلى خطورة منهج المدرسة الغربية في علم النفس والكثير من نتائجه، وأدعو إلى قيام علماء مسلمين، بغربلة معطياته ونتائجه كُلَّه، في ضوء المنظومة الفكرية الإسلامية، وتوظيفه في مجال السلوك الإنساني. وأكتفي بإعطاء مثالين تربويين لهما علاقة بعملية التعلُّم أولهما:أن المدرسة الغربية أعرضت عن العقاب، وتبنت الثوابَ. وهذا يخالف أساساً من أسس المنظومة الفكرية الإسلامية. والمثال الثاني مرتبط بطريقة تعليم القراءة. فخصائص اللغات اللاتينية تناسبها طريقة: انظر وقلlook and Say) ( والتي تنطلق من أن الكلمة صورة كاملة، وتنتقل إلى الدماغ بكليتها، وفي مراحل متقدمة يصبح الدماغ قادراً على تحليلها إلى أجزاء. وهذا لا يناسب طبيعة العربية وخصائصها الهجائية. واليوم يقول علماء أبحاث الدماغ: إن هناك مناطق في الدماغ تصل إليها الأصوات الأحادية ( الحروف) ويستثار بها([17]). ولكن هذه الطريقة، ظل التربويون العرب يلهثون وراءها ويطبِّلون لها. ويؤلفون كتب القراءة للأطفال معتمدين عليها، مما أورث الكثير من المشكلات في العادات القرائية ومهاراتها لدى المتعلِّمين، وهذه المشكلات بدورها أنتجت عاداتٍ غيرَ سليمة في التفكير ومستوى متدنياً في الفهم والتحليل.
ب-العلوم التجريبية والتطبيقية: من مثل علوم الهندسة والفيزياء والكيمياء، والرياضيات والأحياء، في مجالات الإنسان والحيوان والنبات، وعلوم الأرض وطبقاتها وعلوم الفلك… الخ. والمنهج التربوي يجب أن يكون دقيقاً في أن يمثِّلَ رؤية الأمة وموقفها من كل علم، ومن نتائجه، والامتثال لها في بحوثه وأساليبها وتوظيفها.
ودراسة هذه العلوم، حكمها الشرعي أنها فرض كفاية، أي واجب جماعي على المجتمع الإسلامي، والذي يمثله أفراد يتميزون بالقدرات اللازمة لمطالب تلك العلوم، وعلماء الأمة عبر التاريخ بذلوا جهوداً عالية في طلبها، وكانوا ينطلقون إليها وهم يعتقدون جازمين، أن بحوثهم وأساليبهم العلميَّة، توصلهم إلى مستوى معرفي يبقى مقصراً عن المعرفة الكلية المطلقة، وَالتي يمتلكها الله تعالى وحده.
ولا بد أن يأخذ المنهج المدرسي الإسلامي بمعايير وحدة المعرفة والحقيقة، فالإسلام يحتضن المعرفة العلمية المترامية الأطراف، كما يحتضن المعرفة الدينية([18]).
فعلى واضعي المنهج أن يختاروا، وبما يلزم من مرونة تفرضها تطورات علمية، وأخرى اجتماعية، العناوين العلميَّة وموضوعاتها، بناءً على حاجة الأمة على المستويين، الفردي والجماعي، وفق ضوابط الأحكام الشرعية، من واجب ومندوب وحرام وحلال… ويجب أن تُقدَّمَ الحقائق والموضوعات العلميَّة هذه، وفق رؤية تبتغي من العلم الإيمان بالله والخضوع له وعبادته، بالسير على القوانين الأزلية التي يكتشفها العلم، وتعترف بالوعي وبالقيم الربانية المتضمنّة في وحدانية الله تعالى([19]).
وتبقى طرائق البحث العلمي العام، أو تلك الخاصة بكل علم وميدانه، والتي هي أهم من نتائج تلك البحوث ومعطياتها. فمعدو المنهج يجب أن يعتمدوا على منهج علمي([20])، يأخذون به ويلتزمون السير عليه. ففي مقدمة مناهج التعليم العام ما قبل الجامعي وأهدافها، في لبنان، تاريخ الثامن من أيار سنة 1997 وفي مبحث منهجية إعداد المناهج، ورد عنوان أسموه: التنظيم العلمي للعمل. تكلموا فيه كيف أَحكَمَ هذا التنظيمُ، وضبطَ عمليةَ إعداد المناهج، وأشاروا بفخر إلى أنّه قد لاقى إعجاب الخبراء في منظمة الأونسكو في باريس([21]).
والجدير بالذكر، أن الأهداف العامة لمناهج التعليم العام ما قبل الجامعي في لبنان أدارت الظهر لعلاقة العلوم ودورها في تكوين شخصية مؤمنة موحدة، من مرحلة الروضة حتى نهاية المرحلة الثانوية، واكتفت بإشارة ضبابية غير لائقة، إذ اعتبرت الرسالات السماوية مجرد تراث روحي، وقد حصروا الأهداف العامة بهدفين هما:
1- بناء شخصية الفرد عبر( المعارف والمهارات ) و( المواقف والقيم) والسلوك.
2- تكوين المواطن: المعتز بوطنه وانتمائه إليه، المعتز بهُويته وانتمائه العربي، المتمثل تراثه الروحي، العامل على تنمية رصيده الثقافي والعلمي([22]). وقد ورد هذا الهدف دون إشارة إلى أي ضابط، أو موجِّه، في تنمية هذين الرصيدين الثقافي والعلمي، ودون أي إشارة إلى علاقة العلم ودوره في تدعيم أركان الشخصية المؤمنة.
وكذلك لا تجد مثل هذه الإشارة في الأهداف العامة لمناهج العلوم. علماً "أنّها حثت المتعلم على الالتزام بالقيم والمنهجية العلمية التي ترتكز على الأمانة العلمية والموضوعية "([23]).
ويمكن أن تتمثل المناهجُ دعامتها العلمية هذه، أي في مجال العلوم التجريبية في الآتي:
1- وحدة المنظومة العلمية، وأن العلم يجب أن يدعّم الإيمان.
2- علاقة العلوم التجريبية بباقي العلوم الإنسانية وضرورة التواصل والتكامل بينها جميعاً.
3- تحديد المطلوب من العلوم التجريبية، ومن المهارات المتعلقة بها، انطلاقاً من حاجة كل مرحلة ومستوى عمري. بناءً على ما تتطلبه الحياة على المستويين الفردي والجماعي. واستجابة لخصائص كل علم منها ولما يتطلبه خط تطوره.
4- العناية بمناهج التفكير العلمي وأساليب البحث.
5- العناية بالمهارات الأدائية، واستعمال الآلات التي تستخدم في البحث العلمي وكذلك المواد أو الوسائط.
6- ضمان الفرص للمتفوقين والمبدعين ليتقدموا ويتطوروا، واتباع أسلوب التعليم بالتفريد، أو أسلوب الزمر المتجانسة في قدراتها واهتماماتها([24]). فهؤلاء لا تستغني عنهم أمة تتطلع إلى الريادة، وتضطلع بمسؤوليات رسالة السماء الخاتمة والعالمية.
7- ضررة الموازنة بين ما ينفق على تعليم هذه العلوم ومخرجاتها، إذ لا يعقل أن تنفق الدولة والمؤسسات التربوية على تحصيل التلامذة، أبناءِ الأمة، علماً ما، ولا يعود ذلك بالفائدة على الأمة بما يوازي الانفاق على الأقل. وفي حالات الضرورة، لعلم ما يجب أن تلجأ الأمَّة، وتلبي ذلك المناهج، إلى تعليم فئة محددة، ذلك العلمَ وما يتعلَّق به من مهارات، انطلاقاً من تقدير مدى حاجة الأمة إليه.
8- إلزامية أن تكون اللغة التي تقدم بها تلك العلوم هي العربية، ذلك انّ تشكيل شخصية علمية قادرة ومنتمية، يصعب أن يتحقق بشكل واسع ويلبي حاجات الأمة، إلا باعتماد العربية لغة لتلك العلوم. هذا إضافة إلى الايحاء السيء، الذي يشير إليه اعتماد اللغات الأجنبية في تدريس هذه العلوم، وهو أن العربية لا تصلح لغة لها. هذا إن لم يكن يحمل عداءً لها، لما تنطوي عليه من ثقافة من جهة ولعلاقتها بالإسلام من جهة اخرى.
ج- العلوم الإنسانية :
وهي العلوم التي ميدانها ، أو موضوع بحوثها النشاط الإنساني في مختلف نواحيه الاجتماعية. وتدرس ما يصدر عن الإنسان من أفعال، محاولة تفسيرها من حيث الدوافع والحوافز، والأداء والنتائج. ومن أهم العلوم التي تنضوي تحت هذا العنوان أو المصطلح، (العلوم الإنسانية). علم الاجتماع البحت، وعلم السياسة والجغرافيا والتاريخ والعلوم القانونية والإدارية... وغيرها من مثل علم النفس العام وعلم النفس التربوي. والذي اقترحنا أن نطلق عليه علم السلوك الإنساني. وقد ظل مصطلح (العلوم الاجتماعية) يستخدم تعبيراً عن هذه العلوم كلِّها حتى عام 1950. ثم بدأ مصطلح ( العلوم السلوكية) ينتشر بين كتّاب أمريكيين يرون أن هذا المصطلح (السلوكي) والذي يصفون به هذه العلوم يجنح إلى المنهج التجريبي، أو يكسبها صفة التجريب وهذا لا توفره صفة (الاجتماعية ). ويرى آخرون أنّ هذه التفرقة متعسّفة، وليس هناك ما يمنع مصطلح العلوم الاجتماعية من اعتماد المنهج التجريبي([25]). ونحن نرى أن ليس هناك من ضرورة لاعتماد التجريب في هذه العلوم، وخاصة بما يسمى علم النفس. فالمنهج التجريبي: يعني الملاحظة الدقيقة والمتابعة الهادفة، والاستنتاج العقلي السليم. فالإنسان ليس شيئاً لكي نجري عليه التجربة العلميّة الماديّة ويمكن أن نطلق عليها اسماً يناسب المنظومة الفكرية الإسلامية وهو علوم السنن الربانية في الاجتماع الإنساني.
والهدف من هذه العلوم إسلامياً الكشف عن السنن الاجتماعية التي أحكمها الله تعالى، أسباباً ونتائجَ في سلوك الناس.
البعد التاريخي وضرورته في المنهج:
إنّ أول هذه العلوم حضوراً في المناهج هو علم التاريخ، ومن المعلوم أنّه ليس هناك علم وُلد أو ظهر مكتملاً، وإنّما له بداية، وهذه البداية غالباً ما تكون شديدة الانتماء إلى ظروف بيئية تمّت فيها ولادته، فالبيئة بما تعني الطبيعة وثقافة المجتمع بكل أبعادها، وعقيدة ذلك المجتمع وتصوره عن الكون والحياة...إلخ، تشكل الرحم الطبيعي لذاك العلم ومن ثمّ تتضافر جهود أبناء المجتمع في رعايته وتنميته، حتى يتفلَّت من عقال بيئته ويصبح ملكاً للناس عامة. ولما كان الأمر كذلك، فإن لكل علم تاريخاً، يجب أن تعتني المناهج به، فلا يقدَّم العلمُ مبتوراً أو معزولاً عن ظروف نشأته وتطوره وأهم محطاته. ولكل علم أعلام أفنَوا أعمارهم في مطالبه. كذلك لكل علم مناهج بحث، و كان لها أيضاً ولادة وخط تطور مرافق له. فلا يجوز بحال أن تُغفِل المناهج البعد التاريخي لأي علم. ولا أن تعمّي عن أعلامه، ولا أن تنسى خصائص البيئة التي ولد فيها. ولا أن تطمس إسهامات الأمم فيه. وإنني في هذا المجال اقترح أن يُعطى، بدءاً من الصف الرابع أساسي، درسٌ واحد على الأقل عن تاريخ كل علم وأهم أعلامه، وخاصة في الرياضيات، والجغرافيا، إضافة إلى الفيزياء والكيمياء...إلخ. مع الإشارة بما يلزم إلى خصائص البيئة الثقافية والعلمية التي احتضنته. وأن تُقدَّم المفاهيمُ معَ ما يلزم من مناهج البحث التي اعتمدها العلماء في كل علم. فإن هذا المنحى يعزز مكانة الأمّة في وعي المتعلم وتتيح له فرصة التعرّف على مناهج البحث، مما يسهم في تعزيز قدراته العقليّة، ويضعه على جادة أولئك العلماء.
ولقد أردنا فيما تقدم أن نبرر أهميّة البعد التاريخي في المناهج عامّة. ولكن المشكلة في مناهجنا اللبنانية لا تقف عند حد إغفال هذا البعد التاريخي بشكل عام، بل تتجاوز إلى منهج مادة التاريخ نفسها. ونظراً لأهمّية هذه المادة في بناء شخصية المتعلّم عامّة والمسلم خاصّة, فإنّنا سنعرض لبعض القضايا المتصلة اتصالاً وثيقاً بمنهج مادة التاريخ، إذ إنّ بحثنا هو عن القيم التربوية. وإن استمرار غياب منهج مادة التاريخ يختزل الكثير منها. بل يفرِّغ أكثر هذه القيم من الجانب العملي التطبيقي فيها، فتاريخ أمتنا يشكل الميدان الحقيقي والتطبيقي لقيمنا.
وهذه خلاصة سريعة نضعها بين أيدي المهتمين من التربويين عامّة، وغيرهم من مدرسي العربية أو التاريخ خاصة. فإنّ مدرسي اللغة العربية سيدرِّسون بالتأكيد الكثير من النصوص ذات الطابع التاريخي، ويجب أن يتمتعوا بثقافة تاريخية مقبولة ليواجهوا ما يُعرض من قضايا تاريخية فيها دسٌّ وتضليل، كما فيها غيابٌ للأمانة العلمية، فإذا تسلح مدرس العربية بهذه الثقافة التاريخية، صار بإمكانه أن يصلح الخلل وأن يحمي القيم التربوية من القيم المضادة أولاً، ثمّ يُكسب متعلميه القيم الإسلامية ثانياً. عسى أن ينتفعوا بها.
إنّ علم التاريخ يجب أن يتضمن أمرين متلازمين :
1- سرد أحداثٍ مضت معَ التركيز على البيئة التي وقع فيها الحدث من حيث الطبيعة والعناصر البشرية، وما يتصل بها من عقائد ومصالح وطرائق عيش، وعوامل اقتصادية...إلخ.
2- رصد سائر العوامل المحركة والمهمة في صنع الحدث التاريخي وتقديم تفسير علمي، وَمحاولة استشراف سمات المراحل القادمة في ضوء نتائج ذلك الحدث.
فمن البديهي أنَّ تفسير التاريخ، إنما يقوم على أساس أنّ هناك قوانين في الحركة التاريخية يمكن اكتشافها، والإفادة منها في معرفة مراحل قيام الحضارات والدول وأسباب سقوطهما. والقانون بما يعني الثبات والاطراد والقبول المستمر للتكرار، إذا تحققت الشروط، هو في التاريخ كما في العلوم الفيزيائية والرياضة. فقوانين هذه العلوم تتعرض لتحولات ممكنة، وتغيرات، بل وتناقضات، قد لا تقل نسبياً عن تلك التي تصيب العلوم الاجتماعية، والتاريخ.
ولا بدّ للمؤرخ من منهج يستند فيه إلى رؤية كاملة، ينطلق منها في تفسير الأحداث، وهذا ما ارتضاه العلاّمة ابن خلدون الذي نقل اهتمام المؤرخ من سرد الحدث إلى الإحاطة بظروفه ومحاولة تفسيره، وفق الرؤية الإسلامية للسنن الاجتماعية. فهذه السنن أو القوانين، مع إمكانية خضوعها للسببية بطريقة قاطعة، فإنّها لا تتناقض مع إرادة الله تعالى وفعله. فالمسلم يؤمن أنّ هذه الأسباب المادية هي وسائل الله تعالى، وهي جنوده بل هي الجبلّة التي فطر الله الأشياء عليها... وأن إرادة الله تعالى تسوق الطبيعة الكونية والاجتماع البشري لمشيئة واحدة. والمطلوب هو إعمال الفكر وتطوير أدوات البحث لمحاولة فهم ما جرى واستنباط العبر...وهذا من أهمّ القيم التي هي موضوع بحثنا.
وقد ألزم ابن خلدون نفسه بمنهجية بات لا يستغني عنها علم التاريخ وتفسيره ولا مناص لمدرسٍ يتعرض لدراسات تاريخية، مختصة، أو لنصوص تاريخية مبثوثة في كتب اللغة العربية إلا أن يأخذ بها.
وتتجلى عناصر هذه المنهجية بالآتي:([26])
1- النظرة الشمولية إلى الحدث التاريخي: حيث إنّ النظرة الجزئية او المحليّة أو القطرية لا يمكن أن تشكل أساساً لتفسير التاريخ.
2- العلميّة: فلا تفسير دون تعليل. ولا يمكن ان نحقق أمر الله تعالى في الهدف من السير في الأرض والنظر إلى ما تركه السابقون. والذي هو الاعتبار والاتعاظ ﴿ َلقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [ يوسف: 12/111].﴿مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً ﴾ [الأحزاب:33/38 ]
3- الحصانة الفكرية: فإذا كان المؤرخ مجرد مسجل للحدث، مجرد باحث عن طرق صحيحة لاثباته، فإن المفسر يحتاج إلى عمليات فكرية معقدة، يربط فيها الجزئيات، والعوامل المؤثرة، في محاولة لإعادة تركيب الحدث والاستفادة منه في الحياة المعاصرة والمستقبل. فإذا كانت الحصانة الفكرية هذه نابعة من شخصية إسلامية تحققت لنا الاستفادة من إنتاج هذا المؤرخ.
4- الحركيّة: ففرقٌ كبير بين مؤرخ يكتفي بنقل الحدث ونتائجه، وَمفسر التاريخ الذي يعنى بالحركة وإظهارها، حتى كأننا نستعيد شريط الأحداث، مع العوامل والمؤثرات..الخ. وعلى مدرّس العربية في مواجهة أي نصّ تاريخي أن يعنى كلّ العناية بهذه المنهجية. وأن يجهدَ نفسه في توظيف الحدث التاريخي في مجال اكتساب القيم.
ولعل المدهش في المناهج اللبنانية، أن مادة التاريخ هي المادة التي ما زال الخلاف بين الفئات اللبنانية من مسلمين ومسيحيين، ومن اتجاهات مختلفة، علمانية، قومية...الخ يمنعها أن ترى النور. ومعروف كم للتاريخ ودروسه من تأثير في بناء شخصية المتعلّم، وكم تسهم دراسة تاريخنا في تأصيل انتمائنا. فالرابطة بين ديننا وتاريخنا لا تنفك. فهل يريد المسؤولون أن يكون أبناؤنا من غير انتماء؟؟ أم هل يدفعونهم إلى خيارات أخرى في انتمائهم؟!!
وجدير بالذكر أنّ هناك هيئة استشارية مهمتها معالجة الموضوعات الحساسة التي تتصل بالوفاق الوطني، وبوحدة الوطن وانتمائه، وبصورة خاصة ما يعود منها لمواد التاريخ، والتربية الوطنية والتنشئة المدنية([27]) إلا أنّ عمق الخلاف الناتج عن تباين في الرؤية من حيث الانتماء، ومكانة الهُويّة الإسلاميّة العربية في بناء شخصية المتعلِّم ما زال يحول دون صدور منهج مادة التاريخ. وإننا نقترح، في حال استمرار ذلك، أن تعطى اللغة العربية حصص مادة التاريخ، وتختار المؤسسات التربوية نصوصاً وموضوعات تاريخية، تتم معالجتها دراسة وتحليلاً على أساس أنّها نصّ لغوي حتى لا يحرم تلامذتنا من الثقافة التاريخية، ومن القيم التي يحفُل بها تاريخنا. وهكذا تغتني دروس العربية بالتاريخ، وتغتني الموضوعات التاريخية بسعة العربية وأساليب دراسة النص.
ومن الثوابت عند المسلمين، أنّ أصدق الأخبار عن أحداث تاريخية هو ما ورد في القرآن الكريم، وما صحّ في السنّة النبويّة الشريفة. وحري بالتربويين المسؤولين عن منهج مادة التاريخ أو الذين يتعرضون لموضوعات تاريخية في منهاج اللغة العربية، في أيٍّ من دول البلاد الإسلاميّة أن يعتمدوا الأساليب القرآنية في سرد الحدث، وفي بيان أسبابه، وفي تصوير نتائجه، وذلك كلُّه يجب أن يُربط بسلوك الإنسان، فتصبح العلاقة بين كلٍّ من :
1- الأسباب التي أدّت إلى الحدث: إنسانية وماديّة ومعنوية...إلخ.
2- تفاصيل الحدث ، مع الوقفات اللازمة.
3- نتائج الحدث ، القريبة والتي ارتبطت به مباشرةً.
4- استشراف المستقبل في ضوء الحدث بأسبابه ونتائجه.
وهذه العناصر، تشكّل بمجموعها القانون الاجتماعي، أو السنّة الإلهية التي تضبط سلوك النّاس. قال تعالى: ﴿ومَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ [هود:11/177] ﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً﴾﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ﴾ [الفتح:48/22-23] ﴿ َإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ﴾ [ الإسراء:17/16] ، وينبغي للنصّ التاريخي أن يقدّم الأحداث وفق ما تقدّم من سنن ربّانية، وتحت سقف مفهوم قانون التدافع الإنساني ﴿فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة:2/251]
إذاً فتدريس النصوص ذات الطابع التاريخي، يجب أن يتجاوز عرض الحدث. ونوجه هنا أيضاً عناية المدرسين الذين يعالجون نصّاً تاريخياً أو يضعون نصّاً تاريخياً، أن يحدّدوا أهدافه بوضوح، مستندين إلى المعايير والمفاهيم التي ذكرناها. وعلى الذين يتصدرون لإعداد كتب التاريخ خاصة أن يستمسكوا بهذه الأهداف، ويترجموها في نصوصهم، ونشاطاتهم التعليميَّة والتعلُّميّة والتقويميّة. وعلى المدرسين أن يقفوا عليها ويفهموها، ويجتهدوا في تقديمها للمتعلمين، لتسهم في تشكيل شخصيتهم وليتمثلوها في سلوكهم ومن هذه الأهداف:([28])
أ- الاعتبار، فالمتعلِّمون يجب أن يُعطَوا نشاطاتٍ تمكِّنهم من البحث عن العبرة في أي حدث تاريخي، كما يجب أن تمكّنهم هذه النشاطات من أخذ موقف من الذين أسهموا في صنع الحدث أو من الذين طالتهم نتائجه.
ب- وضع الحدث التاريخي في سياق السنن والقوانين الاجتماعية الربّانيّة. مما يسهم في ضبط سلوك المتعلِّمين، ويجعلهم قادرين على التفاعل والتدافع معَ مجموعات بشريّة، داخل الأمّة وخارجها، على المستويين الفردي والجماعيّ، ليتوخَوا بذلك عمارة الأرض، والحفاظ عليها ودفع الفساد عنها.
ج- تمكين المتعلِّمين من البحث عن قدرة الله وحكمته وتدبيره، في ضرب الظالمين ببعضهم، وتداول الأيام بين النّاس﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾[ آل عمران:3 /140].
د- الوقوف على معرفة أسباب القوة، وحسن التصرّف بها. فالقوة في الإسلام ليست للقهر، أو للتخريب والتدمير، فالقوة لازم من لوازم الجهاد العسكري، وحماية بيضة الأمّة، في الدعوة إلى الله تعالى، والتمكن من عبادته، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ﴾ [ الحج:22/41]
هـ- أن يتخذ أيُّ نصّ تاريخي أو المنهج في مادة التاريخ، من الموازين والقيم الإسلاميّة معياراً في الحكم على سلوك الدول، والأمم السابقة، من خلال الحدث التاريخي. ويتيح الفرصة أمام المتعلِّمين أن يستشرفوا المستقبل مستفيدين من التاريخ.
و- أن يسهم النص التاريخي في ترسيخ عقيدة المتعلِّمين، وتكوين رؤيتهم الإسلاميّة، وبناء شخصيتهم الإسلاميّة.
ويبقى أن نشير إلى إحدى إشكاليات البعد التاريخي في المنهج، هذه الإشكاليّة النابعة من ازدواجية الانتماء إلى لبنان وتاريخه. فبعضهم يراه فينيقياً، ويرى أنَّ المسلمين قد احتلوه. ويصبون جام غضبهم على فترة الخلافة العثمانيّة في كثير من نصوص كتاب اللغة العربية، وفي القصص المقترحة للمطالعة. وفي مواجهتهم تلك يستمسكون، بالعرب والعروبة، ويثيرون الخلافات بين العرب وغيرهم من المسلمين. بينما نرى أن العرب والعروبة قيمتهم أنّهم شراع في سفينة الإسلام، فإذا ما فارقوها عادوا خرقةً ممتهنة.
والمطلوب أنَّ نجد حلاً لمشكلة البعد التاريخي في المناهج، فلا يعقل أن تبقى في دائرة الظلام ولا يسلط النور عليها. لكن الحقيقة أنّ هذه المشكلة غاية في التعقيد في هذه الفسيفساء الطائفيّة، والفكرية، وما ينتج عنها من مواقف واتجاهات سياسية، وفي خضم الحضور الغربي الثقيل، ورفع شأن الانتماء إلى الوطن والقوم والحزب على حساب الانتماء للأمّة. وما أكثر ما نرى في نصوص كتب اللغة العربية وفي كتب التاريخ المدرسيّة من تمجيد لشخصيات ناصبت الدولة الإسلاميّة العثمانيّة العداء، وتعاونت مع أَعداء الأمّة. وتضافرت جهودهم معَ جهود الكثيرين الذين أَعملوا معاول الهدم في التاريخ الإسلاميّ ، من الدسّ الإسرائيلي، إلى الدخلاء على الإسلام من الديانات القديمة، وصولاً إلى الصليبيّة العالميّة، والشعوبيّة والتعصب للجنس من فرس، وروم إلى التعصب المذهبي، إلى أن وقعت الأمّة تحت الاستعمار الغربي وصار لهم عملاء يرمون عن قوس واحدة، وينعقون بما يريد سيدهم المستعمر. وأخذ كُتَّابهم ينشرون ما انطوت عليه صدورهم، من الحقد على الإسلام وأصحابه: ويكفي أن نشير إلى أنّ جرجي زيدان قد كتب سبع عشرة رواية، ولا تجد فيها بطلاً إسلاميّاً إلا وسلبته امرأة لبّه، فيكون عملُه وبطولته استجابة لإعجابها، وليس من أجل إيمانه وإعلاء كلمة الله تعالى. ([29]) وهذه القصص ومثيلاتها هي التي يشار لاعتمادها كتباً للمطالعة.
البعد الجغرافي ودوره في دعائم المنهج:
ومن العلوم التي تنتمي إلى العلوم الاجتماعيّة أو الإنسانيّة، وتتكامل معَ غيرها من العلوم، لتشكل الدعامة الثانيّة للمنهج، هي العلوم الجغرافيّة. ذلك أنّ الدراسات الجغرافيّة لم تعد مجرّد دراسات علميّة محضة، تقوم على الملاحظة والوصف والتحليل والتفسير...إلخ، بل صار الجغرافيّ يطمح إلى فهم معمّق لنشاطات الإنسان في بيئته التي يتفاعل معها، وسبل الحفاظ عليها والاستفادة منها، وصارت المعارف الجغرافيّة ضرورة وطنيّة كونها تعزز روح المواطنية المسؤولة، وتقوي الانتماء، وتوطد العلاقات على أساس من العمليّة اللازمة لفهم العلاقات بين الدول([30]) .
ومن المسلّم به كما ذكرنا أنّ لكل علم تاريخاً، وبيئة نبت وترعرع ونما فيها، وهذه البيئة تعني النظام السياسي الذي ينظّمها، والمنظومة الفكريّة التي تحدّد هُوية المجتمع، من عقائد وشرائع ورؤى... إلى الثقافة التي هي انعكاس لكل ذلك، ونراها متمثلة في مجمل نشاطات الإنسان، العلميّة والثقافية والأدبية والاقتصادية. وكذلك لكل عِلْمٍ أعلام أفنَوا أعمارهم في مطالبه ومباحثه. لكن، الذي يدرس مقدمة الأهداف العامّة، للمناهج، لا يجد فيها أيَّ إشارة للبعد الجغرافي، باستثناء الاشارة إلى الانتماء إلى لبنان. وكذلك من يدرس الأهداف العامّة لمادة الجغرافيا، وأهداف كل حلقة وكل صفّ، يقف متعجّباً متسائلاً. أليس للمسلمين العرب وغير العرب دورٌ وإسهامات في هذا العلم؟!! أليس فيهم عَلَمٌ واحدٌ من أَعلام هذا العلم؟!! ألم تلبِ البيئةُ الإسلاميّةُ الكثيرَ من متطلبات هذا العلم؟!! ألم تنمِّ عقائدُ الأمّةِ الإسلاميةِ، ورؤاها وثقافتها ملكةَ البحثِ عامّةً، والجغرافيّ خاصّة؟!!
وإنّ قراءة كتاب الله عزّ وجلّ، تنبىء عن مدى أصالة هذا العلم في الإسلام، فالآيات التي ورد فيها ذكر الأرض والسماء، والنجوم والأقمار، والشمس والبحار، والغيوم والماء والنبات والتربة والزروع كثيرة جداً. وَما أكثر الآيات التي أمرت بإعمال النظر عبر السير في الأرض والبحر ومنها قوله تعالى: ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [ العنكبوت: 29/20 ] والسير هذا لا بدّ أن يكون لاكتشاف سنن الله في خلقه، وللوقوف على قدرته تعالى وحكمته وتدبيره. ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [آل عمران : 3/137] وكذلك ليعقل كلُّ ذي عقل، ويتدبَّرَ كلُّ ذي قلب ويعتبر، ويربط سلوكه وسلوك البشر، بالظواهر الطبيعيّة، من زلازل وهزّات وكوارث، ويوقن أنَّها تتمّ بأمر الله تعالى ﴿فكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ﴾[الحج : 22/46] ﴿..أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج :22/45-46] حتى إنّ ما ينزل من السماء وما تُنبت الأرض مرتبط، بإذن الله، بسلوك النّاس وإيمانهم﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ [الأعراف : 7/96 ] وإن ما يظهر من فساد في البر والبحر مرتبط بسلوك الناس﴿ ظهر الفساد في البر والبحر ﴾[ الروم: 30/41]أمّا الذين يتكبَّرون فالله عزّ وجلّ يصرفهم عن آياته، فلا يلاحظون سننه ولا قوانينه﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [ الأعراف:7/146].
فالبعد الجغرافي من حيث هو دراسة للنشاط الإنساني بكل أبعاده، يجب أن يكون حاضراً، ويؤخذ بالحسبان عند التخطيط للمنهج، وخاصة عند رصد اللجان الأهداف العامّة، وعند تحديد الأهداف الخاصة لكل مادة. فالأديب والسياسي، والشاعر... هؤلاء كلُّهم ينتمون إلى بيئة جغرافية لها خصائصها الطبيعية والثقافية والاجتماعية عامة. وإن إغفال هذا البعد الجغرافي حتى في مادة الرياضيات، ينزع الجانب الإنساني منها ويجعلها مجرد أرقام ومعادلات. ولكن الحقيقة أنّ الحساب وعلوم الهندسة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بحياة الناس وسلوكهم.
ونظراً لارتباط علوم الجغرافيا بحياة الناس كما تقدم، ونظراً لأصالة هذه العلوم في الإسلام، وانطلاقاً من ضرورة البعد الجغرافي الذي يجب أن يكون حاضراً في ثقافة مدرس اللغة العربية، وفي سلوكه، كما يكون حاضراً في منهج مادة اللغة العربية. وانسجاماً مع مفاهيم تربوية صارت شائعة اليوم من مثل: ضرورة التكامل بين المواد، وضرورة النظرة الشمولية للموضوع الواحد من أكثر من زاوية: لغوية وتاريخية وجغرافية وعلمية..إلخ. فإنّنا سنعرِّج وبايجاز على الأهداف العامّة لمادة الجغرافيا مبدين بعض الملاحظات.
إنّ أهداف منهج مادة الجغرافيا ، لم تلحظ، بل لم تشر لا من قريب ولا من بعيد، إلى السنن الكونيّة، ولا إلى قدرة الله تعالى، وحكمته في أي ظاهرة كونيّة أو واقع جغرافي، لا في الأرض بأغلفتها الصخريّة أو المائيّة أو الغازيّة، ولا في الفضاء والسماوات ومجراتها بنجومها وشموسها وأقمارها. وإن هذا الأمر يُعد من أخطر التوجهات التربوية. فالملاحظ أنّ أَهداف هذه المادّة جاءت مجانبة لأي قيمة من القيم التربوية الإسلاميّة خاصة والإيمانية عامةً. وكأنّ الذين صاغوا هذه الأهداف إنّما يصدرون فيها عن عقيدة إلحاديّة، ترى أنّ هذا الكون بما فيه من أرض وسماوات لا علاقة له بخالق مدبر. وهذا يضاعف من مسؤولية مدرس اللغة العربية. ليواجه أي مصطلح أو مفهوم جغرافي يتضمنه النص الذي يدرِّسه.
ولكي تتضح الصورة فإنّنا سنعرض الأهداف العامّة لمادة الجغرافيا، وأسماء أعضاء هيئة التخطيط، وأسماء أعضاء لجان المراحل في منهج مادّة الجغرافيا([31]). ونترك لدلالات أسماء هيئة التخطيط، وأسماء أعضاء اللجان ، وأسماء المؤسسات أن تتكلم أولاً، ثمّ نترك الأهداف العامّة، أن تنبىء عن صورة المتعلّم الذي تسعى المؤسسات التربوية لتربيته وفق هذه الأهداف.
الأهداف العامّة : ترمي هذه الأهداف إلى :
1- تزويد المتعلّم بمجموعة من المعارف والمفاهيم الأساسية، التي تسهوم في تكوين شخصيته العلمية والثقافية .
2- توسيع آفاق المتعلم المعرفية، ولفته إلى ما يدور حوله، كي يصبح المجال الجغرافي بأبعاده كلِّهم في صلب اهتماماته.
3- تمكين المتعلّم من فهم الظاهرة الجغرافية كمركب ناتج من تفاعل مختلف العوامل البشرية والطبيعية، والتركيز على حتميّة التفاعل القائم في ما بينها.
4- تمكين المتعلّم من ادراك المجال الجغرافي الذي يعيش فيه ويتفاعل معه، ابتداء من ادراك الوقائع والظاهرات المشاهدة الملموسة، تدرجاً إلى الحقائق والظاهرات المجردة. وهذا من شأنه تدريب المتعلّم على التعلّم الذاتي، وتعويده المنهجية العلمية القائمة على التدرج المنطقي، والتعليل أي ربط السبب بالمتسبّب واستنتاج الحقائق.
5- تنمية قدرة المتعلّم على التفكير النظري والمقارن، من طريق اثارة الأسئلة الأساسية المتعلقة بموضوع معين، وجمع المعلومات، ووضع الفرضيات والاحتمالات.
6- تنمية مهارات البحث الميداني، والاستقصاء العلمي عند المتعلّم، من خلال العمل الفردي والجماعي.
7- تنمية مهارات استخدام المصطلحات، وقراءة الخرائط بمختلف أنواعها، والصور الجوية والفضائية، والبيانات الإحصائية وتفسيرها.
8- اعداد المتعلّم ليكون مواطناً سوياً، يتحسس مشاكل مجتمعه، ويعمل للمحافظة على موارد وطنه، وعلى بيئته الطبيعية، ووقايتها وتحسينها وصيانتها باستمرار.
9- تنمية الروح النقدي عند المتعلم لتعزيز السلوك الإيجابي في تحليله القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والمشاكل البيئية وغيرها.
10- تعويد المتعلّم العمل الجماعي المنظم، لتعزيز التبادل الفكري، وتيسير سبل اكتساب المعارف، والتكيف مع التطورين العلمي والتكنولوجي المتسارعين والقائمين على التعاون والتواصل المعرفي.
11- تعزيز الانتماء الوطني عند المتعلّم من خلال تعريفه بطبيعته بلاده وخصائصها، وثرواتها البشرية والطبيعيّة، وتزويده بالمعارف الجغرافية التي تؤهله للمساهمة في بناء وطن متقدّم قادر على مواجهة متطلبات العصر وتحديات المستقبل.
12- توعية المتعلم لأهمية علاقة لبنان بعالمه العربي، من خلال دراسة الظواهر الجغرافية فيه عامّة، والتركيز على دراسة الظواهر الاقليمية المتشابهة( طبيعية، بشرية...) والمصالح المشتركة.
13- تنمية النظرة الشمولية عند المتعلّم لإدراك أن أجزاء العالم مترابطة على بعد المسافات، وأن هذه الأجزاء يتأثر بعضها بالبعض الآخر، بفضل التطور العلمي المتسارع، وحاجات التبادل المتزايدة، والعلاقات السياسية الدولية المتشابكة، ووسائل الاتصال المتنوعة، والمنظمات الإقليمية والدولية المتعدّدة.
14- إِطلاع المتعلّم على مستجدات العصر، والإِنجازات العلمية، وتمثلها، وإِغنائها، تأكيداً لإِنسانية المعرفة، وتواصلها في الزمان والمكان، وحق كل إنسان بها.
حثّ المتعلّم على الاهتمام بدراسة القضايا التي تعني الإِنسان في كل مكان، كالتلوث البيئي، وتمزق طبقة الأوزون، والموارد النافذة والبديلة، وقضايا التنمية...
وإنّني أدعو للإسراع بإعادة النظر في الأهداف العامّة لهذه المادّة، وفي الأهداف الخاصّة بكل صف فيها، فضلاً عن إعطاء البعد الجغرافي حقه في منهاج مادة اللغة العربية خاصة وحيث يلزم في المواد الأخرى وأخذ الأمور الآتية بعين الاعتبار وخاصة في النصوص اللغوية التي موضوعها ظاهرة جغرافية، أو نشاط إنساني يقع تحت هذا العلم:
1- أن يكون هذا العلم قائماً على ملاحظة العلاقة بين الكون المخلوق وخالقه تعالى، للوقوف على قدرته في بعض أسرار خلقه، وحكمته في تدبيره. فتراث الفكر الجغرافي عند المسلمين لم يقتصر على المشاهدة والوصف والرصد ودراسة الظواهر، بل إنّهم حاولوا استنباط السنن والوقوف على النواميس الكونيّة، والقوانين العلميّة التي تحكم كل ما في الكون([32]).
2- أن ترتكز دراسة النشاطات الإنسانيّة الجغرافيّة، في ملاحظة علاقات الإنسان بمحيطه المادي والبشري، إلى العوامل التي تشكّل شخصيّته، من عقائد وشرائع، فالإنسان لا يتحرك في هذا الوجود بمعزلٍ عن أفكاره ومعتقداته.
3- أن يكون تاريخ هذا العلم عند المسلمين، حاضراً بأهمّ أعلامه وبمناهج البحث التي اعتمدوها وبكتبهم من مثل: ابن خُرْدَاذْبُه([33]) المتوفى عام 272هـ وكتابه ( المسالك والممالك)، وياقوت الحموي([34]) وكتابه (معجم البلدان) والمقدسي المتوفي سنة 390هـ، في كتابه( أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) والإدريسي([35]) المتوفي سنة 560هـ في كتابه ( نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) وغيرهم كثير جداً. وكما يجب إبراز خصائص الكتابة الجغرافيّة عند المسلمين من مثل: الدقّة – والصدقية – والشموليّة – المبنيّة على المشاهدات الشخصية الحية، أو اعتماد علم الرواية في نقل الأخبار عن الأقاليم والمسالك والطرقات...
4- إبراز اهتمام السلطات السياسية الإسلاميّة بهذا العلم، للوقوف على مدى أهميته في حياة النّاس. من مثل اهتمام الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب([36]) رضي الله عنه بالمسائل الجغرافيّة، فقد كلّف سعد بن أبي وقّاص([37]) بعد معركة القادسيّة أن يصف له المواقع المجاورة لها. ولمّا اتسعت رقعة الفتوحات الإسلاميّة، صار الاهتمام بالمناطق المفتوحة، بوصف طبيعتها ودراسة طبائع أهلها وعقائدهم وعاداتهم...إلخ. وأنظمة حكمهم وأقضيتهم وتنظيم بلادهم صار ذلك كلُّه جزءاً من العمل الإداري للدولة الإسلاميّة. وقد ارتبط باسم الحجاج([38]) أول خبر معروف عن الخرائط عند المسلمين، حيث ثبت أنه في عام(89هـ ) بعث إلى أحد القادة العسكريين، قتيبة بن مسلم الباهلي([39])، فاتح بلاد ما بين النهرين، أن يرسل إليه صورة المنطقة التي فتحها([40]).
5- ضرورة أن يستجيب هذا العلم في نصوص مادة الجغرافية، أو في النصوص اللغوية، لمفهوم العالم الإسلامي، بما فيه من مناطق عربيّة، وفارسيّة، وهنديّة... إلخ. لا أن يُقدَّم انطلاقاً من واقع التجزئة الاستعمارية الحالية للعالم الإسلامي، بما فيه من دول مصطنعة. فالطبيعة، والثروات والشعوب ونشاطاتها، يجب أن تقدم على أساس فكرة التكامل والتواصل.
6- الالتزام بالمصطلحات الجغرافيّة التي تنم عن وحدة الأمّة. فمصطلحات من مثل: الشرق الأوسط، والخليج الفارسي، والعالم العربي ودول الجوار( للكيان الغاصب) هذه المصطلحات كلُّها هي من وجهة نظر الغرب المستعمر، وتسهم في تشويش الصورة الجغرافيّة المرتبطة بالنظم والقيم والعقائد والشرائع... التي يؤمن بها أبناؤنا. ونرى هذه المصطلحات وغيرها مبثوث في كثير من النصوص اللغوية، ويجب على المدرسين عامة وعلى مدرسي الجغرافية واللغة العربية خاصة أن يعوا تماماً خطر تلك التوجيهات ويواجهوها. فأين المصلحة عندما يبني استاذٌ القيم في مجال وغيره يهدمها في مجال آخر؟؟
7- ضرورة اعتماد المنهج التاريخي في الدراسات الجغرافيّة وحيث يلزم،في أي نص من نصوص كتاب اللغة العربية فالأرض بمن عليها، كما يقال، ولا يعقل أن ندرس منطقة ما من حيث موقعها، وتضاريسها، وثرواتها، من غير أن ندرس ما يتعلّق بالنّاس الذين عاشوا عليها .
ونظراً لأهمية هذين البعدين، التاريخي والجغرافي في بناء المناهج، ولما كانت المناهج قد أغفلتها، فإنّ واجب مدرسي العربية يصبح أعظم، ومسؤولياته تتطلب مثابرة ومتابعة، وعليه أن ينمي قدراته ويوسع ثقافته في المجالين الجغرافي والتاريخي. وهذا يستلزم تحضيراً موسعاً وإقامة صداقة مَعَ المراجع الموثوقة. ونحن نعلم أنّ هذا الجهد سيحرم المدرس من بعض أوقات فراغه، وقد يكون على حساب أمور أخرى، لكن مدرس العربية يجب أن يكون متميزاً ليس بإخلاصه فحسب بل بكل مستلزمات المدرس الناجح. لأنّه من أصحاب النفوس الكبيرة، وحسبه قول المتنبي([41]) فيه:[ من البحر الخفيف]
وإذا كانت النفوس كباراً | | تَعِبَتْ في مرادها الأجسام([42]) |
د- علوم اللسان:
وعلوم اللسان، وبالذات علوم العربية وما يتصل بها من آداب هي أيضاً من العلوم التي تتضافر وتتكامل مع العلوم الأخرى، التجريبية والاجتماعيّة، لتشكل جميعاً الدعامّة الثانية للمنهج. لكننا لن نتوقف عندها على أساس أنّها مادة من مواد المنهج، لأنّنا سنبسط الكلام عن منهج العربية في الفصل القادم، بل همُّنا في عرضها أنّها يجب أن تكون حاضرة في مواد المنهج كلِّها، فالعربية من حيث مكانتها، إذ هي لغة القرآن الكريم، ومن حيث حضورها في الفكر الإسلامي العام، ومن حيث صلتها بعبادة المسلم، إذ لا يصح الأذان، وكذلك الصلاة بغير العربية. فالعلوم كافة يجب أن تقدم بالعربية، لما في ذلك من أهمية في بناء شخصية المتعلّم عامّة، وفي بناء قدراته العقليّة واستيعابه المفاهيم العلميّة، وقوانين العلوم وتوظيفها خاصة. فإنّ تدريس العلوم من أحياء وفيزياء وكيمياء، وكذلك تدريس الرياضيات، بدءاً من مرحلة الروضة، بلغة أجنبيّة فيه إيحاء خطير، مفاده أنّ العربية لا تصلح لدراسة العلوم، أو لا تلبي المتطلبات العلميّة. وهذا وهم، بل ظلم.
ثالثاً- الدعامة الاجتماعيّة :
إنّ نظرة التربوي المسلم إلى هذه الدعامة، تختلف عن نظرة غيره من التربويين. ذلك أنّ المجتمع الإسلامي بما فيه، يصاغ وفقاً للعقيدة التي يؤمن بها، وللشريعة التي يلتزمها. فالتربوي الغربي يسأل المجتمع أيَّ نوع من التربية يحتاج إليه، وما الأساليب والطرائق والمضامين... إلخ، التي تلبّي هذه الحاجة؟ فيصوغ المنهاج بأهدافه وبعناصره الأخرى كلِّها وفقاً لحاجة المجتمع، فالمجتمع بما يحمل من نظمٍ، ومفاهيم وتطورٍ وآمالٍ وتطلعاتٍ، يشكل مرجعاً لواضعي المنهج في المجتمعات التي تحتكم إلى رؤى وأنظمة وقوانين وضعيّة. أمّا التربوي الإسلامي فمرجعه كتاب الله وسنّة رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وغيرهما من مصادر التشريع، فلا بدّ له أن يسألها جميعاً. أي نوعٍ من المجتمعات تريد؟؟ وما المفاهيم والمنطلقات والأهداف، والطرائق والأساليب التربوية التي يعتمدها، ليتمكَّن من صياغة المجتمع المطلوب، والمحدَّدة صفاتُه بأنظمته وشرائعه من قبل مصادر الدين الإسلامي عقيدة وشريعة؟ فلا يمكن للتربوي المسلم أن يلهث وراء الظواهر الاجتماعية، والمشكلات التي يعاني منها المجتمع، ويصوغ المنهج مستجيباً لها. فلا يجوز بحال من الأحوال أن تصاغ المناهج في إطار الثقافة السائدة، بما تحمل من أفكار، وسلوك، وبما لها من آثار في المجالات كافة، الاقتصاديّة والسياسية... إلخ. فالتطور الاجتماعي بأبعاده كلِّها ، عندما نستجيب له، يجب أن تكون استجابتنا التربوية، عبر صياغة المنهج منطلقة من رؤية إسلاميّة صرفة، فالدعوات التي أطلقها ويطلقها بعض التربويين من الاحتكام إلى عوامل التطور الاجتماعي وجعلها مرجعاً في بناء المنهج، يجب أن نقف عندها ونحاكمها.
يقول أحدهم: " تقع على التربية المسؤوليّة الكبرى في نجاح ما يهدف إليه المجتمع الجديد، وفي صياغة الأفكار الاشتراكية في قوالب العمل المنتج، كي تسهم بفاعليّة في القضاء على مخلفات الماضي، ومعالمه غير المرغوب فيها، وفي إقامة الصرح الجديد للحياة التي تحوَّل إليها المجتمع المصري." ([43]) إنّ هذه الدعوة ومثيلاتها تحمل في طيّاتها تنكراً للإسلام، بل قل: تناصبه العداء. وتسهم في بناء شخصيّة مشوشة. إذ تتمخض عن التربية التي حملتها المناهج، والمعتمدة، على أنماط التربية الأجنبية. ([44])
إنّ العلاقة وثيقة بين المنهج التربوي المدرسي، وخصائص المجتمع من حيث هي واقع، وعند التخطيط لمنهج مدرسي يجب أن يقوم التربويون بمختلف اختصاصاتهم، بما يلزم من دراسات، للكشف عن المشكلات والبحث عن حلول لها، لا من أجل أن تُلحَقَ التربية بهذا المجتمع وتصاغ المناهج استجابة لمشكلاته، فتنتقل المشكلات إلى التربية، ولا تفلح مناهجها في بناء المجتمع المنشود. وهذه الحلول يجب أن تكون منتمية للفكر الإسلامي، غير متعارضة معه. ولا يجوز لأحد وضع حلول أو مناهج مغفلاً فكر الأمّة، بل عليه أن يكون في أي حل منسجماً مع المنظومة الفكرية للأمّة، بأقواله وأفعاله وعواطفه وفي كل خطوة، أما أن يستورد الحلول من الشرق أو الغرب فإنّ ذلك تضيّعاً للجهد، ومضاعفة للداء. إن كل تقليد في هذا المجال جهل وانتحار، فعلاج المشكلات يرتبط بعوامل زمنية، نفسية ناتجة عن فكرة محدّدة يرتبط ظهورها بمناخات التطور الاجتماعي، في حدود الدورة الحضارية التي ندرسها. فالفرق شاسع بين مشكلات ندرسها في إطار دورتها الزمنية وفي بيئتها الغربية ومشكلات جاءت نتيجة الدورة الإسلاميّة الحضاريّة، وفي حضن أمتنا([45])
ودعامة المنهج الاجتماعية تتسع لتشمل الحالة الاقتصادية التي يعيشها المجتمع، والأنظمة الاقتصاديّة التي تسود النشاطات الاقتصادية وتوجهها. وتشمل النظم الاجتماعية من عادات وتقاليد وقوانين وقيم..إلخ. تلتزمها الجماعات والأسر والأفراد، والمؤسسات. والتي ينشئها وينظمها المجتمع إشباعاً لحاجات الإنسان الضروريّة، البيولوجية، والنفسية والاجتماعية. فبعض هذه النظم مصدرها وضعي، وتكون خاضعة للغالب، عسكريّاً أو سياسياً أو اقتصادياً... بينما هي في الإسلام خاضعة للوحي وللمنظومة الفكرية الإسلامية([46])، وإن خرجت عنها، فمهمة المناهج والتربويين أن يعيدوا بناءها بما يلزم من مرونة تتمتع بها الشريعة الإسلامية، لتضمن سلامة التطور الاجتماعي، وتتجنب الوقوع في فخ الجمود، أو الانفتاح غير المحمود. فالمجتمعات كلُّها تتغير ولم يسلم من التغيير حتى أشد المجتمعات محافظة. والتغير في حده المقبول ظاهرة صحيّة، بل مطلوبة في كثير من الأحيان، لكن سرعة التغير تتفاوت من مجتمع لآخر، ومن زمن لآخر، فإن التغير في القرن الحادي والعشرين يخضع لقانون التسارع، فكل يوم يكون التغير فيه أسرع من الأمس([47]). والمجتمع المسلم لا يخشى هذا التغير، بل ينظمه ويتفاعل معه، فيسرِّعه عند اللزوم، أو يكبح جماحه، أو يواجهه، موظفاً العلوم في خدمة هذا التطور. ولقد اهتمّ العلماء المسلمون بالحساب والعلوم الرياضيّة عندما توسّعت رقعة دولتهم وازدادت مداخيلهم واتسعت تجارتهم. واهتموا بعلم الفلك لمعرفة مواقيت العبادات كالحج والصوم والصلاة، وأبدعوا في دراسة الطبيعة من ممرات ومضائق...إلخ. ([48]) ولن يقفوا اليوم مبهورين بهذا التغير المتسارع على كل مستوى، إذا صمّمت مناهجها التربوية بناءً على المنظومة الفكرية لديننا الإسلامي. فكم من مجتمع كان يعاني من مشكلات في كل اتجاه، وتنخره الأدواء، ولم يكن له من دواء إلا الإسلام.
وإن المتأمل في مضامين هذه الدعامة الاجتماعية، يرى أنّها تعود بكليتها إلى أساس المنهج الذي حددناه، فكل نشاطات الإنسان المسلم يجب أن تكون محكومةً بمعايير عقيدته، وأحكام دينه الشرعيّة، ويصدر فيها عن الرؤية الإسلامية الكلية لهذا الوجود بما فيه. ويقول المفكر الإسلامي أبو الأعلى المودودي: حتى يحدث التغيير المطلوب في قيادة البشرية فإنّ الوسيلة الوحيدة هي إقامة منهج جديد للتربية والتعليم يختلف كل الإختلاف عن الأنظمة القائمة من حيث الغايات والوسائل، بل يختلف معها من بداية الطريق حتى نهايته([49]).
رابعاً- الدعامة الإدارية والاقتصادية.
لمَّا كان للمنهج كل هذه العلاقة بالمجتمع، حيث يشكل الوساطة بين مراد الله من الناس في استخلافهم، والناس، ليكونوا عبادَه المستخلَفين.
كان لا يكفي أن توضع خطط الإصلاح. والمنهاج من حيث هو خطّة تربوية إصلاحية، لا بدّ له من آليات إدارية في التخطيط والتنفيذ، ولا بدّ من آليات إدارية لتراقب وتقوِّم وتوجِّه وترشد وتكافىء وتعاقب، وتسهر على سلامة التطبيق، ودواعي التغيير. وكل خطّة تحتاج إلى إنفاق. فكيف إذا كانت الخطّة تستوعب جهد آلاف الخبراء والمختصين وملايين الموظفين والعاملين. وهؤلاء جميعاً لا بدّ لهم من أبنية ووسائل نقل واتصال و .... و ....إلخ. فإن لم ترافق أيَّ منهج خطةٌ إداريةٌ محكمةٌ، تقدِّر النفقات وتنظم الانفاق، فستكون النتائج بعيدة المنال، وسيُتهم المنهج بأساسه ومنطلقاته بأنّه غير سليم، وقد توجَّه أصابع الاتهام إلى المنظومة الفكرية التي انطلق منها. بينما تكمن المشكلة في الإدارة.
(2) هو عبيد الله بن أحمد خُرْدَاذْبة، أبو القاسم[نحو (20)هـ - نحو(280)هـ] مؤرخ وجغرافي، فارسي الأصل من أهل بغداد، اتصل بالمعتمد العباسي، فولاه البريد والخبر بنواحي الجبل. ومن تصانيفه: المسالك والممالك – جمهرة أنساب الفرس- اللهو والملاهي والشراب – وأدب السماع – وغيرها. ( عن الأعلام للزركلي : ج4/ص:190).
(3) هو ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي، شهاب الدين؛ مؤرخ فقيه، ومن أئمة الجغرافيين، ومن العلماء باللغة والأدب، أُسرَ من بلاد الروم صغيراً، وابتاعه في بغداد تاجر اسمه: عسكر بن ابراهيم الحموي. وبعد عتقه عاش من نسخ الكتب بالأجرة. ثم أَعطاه مولاه مالاً واستخدمه في تجارته. وبعد وفاة مولاه رحل رحلة واسعة وصل بها إلى مرو في خراسان. ثم عاد وأقام في خان بظاهر حلب حتى توفي سنة 626هـ ومن مؤلفاته : معجم الشعراء _ وأخبار المتنبي _ والمقتضب من كتاب جمهرة النسب_ ومعجم الأدباء_ وأشهرها معجم البلدان ( عن الأعلام للزركلي_ ج8/ص:131).
(4) هو محمد بن عبد الله بن إدريس الإدريسي [493هـ- 560هـ] مؤرخ، ومن أكابر العلماء بالجغرافيا. من ادارة المغرب الأقصى. ولد في سنته ونشأ وتعلّم في قرطبة. رحل رحلة طويلة انتهى بها إلى صقلية، ومن تصانيفه: نزهة المشتاق في اختراق الآفاق. وهو أصح كتاب ألّفه العرب في وصف بلاد أوروبا. ترجم إلى الفرنسية واللاتينية والألمانية. وله، الجامع لصفات أشتات النبات، وروض الأنس ونزهة النفس.(عن الأعلام للزركلي ج/7 ص: 24).
(2) هو سعد بن أبي وقاص بن أهيب بن عبد مناف. [ 23ق هـ - 55 هـ ] صحابيّ أمير، فاتح العراق، ومدائن كسرى، أحد الستة الذين عينهم عمر للخلافة. وأحد العشرة المبشرين بالجنّة، وأول من رمى سهماً في الإسلام. من الذين شهدوا بدراً. مات في قصره بالعقيق، على عشرة أميال من المدينة المنورة، وحمل إليها. ( عن الأعلام للزركلي: ج /3 ص: 87 ).
(3) الحجاج: هو أبو محمد بن يوسف بن الحكم الثقفي :قائد، داهية خطيب، ولد سنة 40هـ في الطائف، انتقل إلى الشام فلحق بروح بن زنباع، نائب عبد الملك بن مروان، ثم قلده عبد الملك أمر عسكره. ولاَّه عبد الملك مكة والمدينة والطائف ثم أضاف إليها العراق. بنى مدينة واسط بين الكوفة والبصرة. وقد قيل فيه: ما رؤي مثل الحجاج لمن أطاعه، ولا مثله لمن عصاه. وذكر ياقوت الحموي من محاسنه الكثير وقال: إنّما يذكر النّاس مساوئه.مات بواسط سنة 95 هـ.( عن الأعلام للزركلي ج/2 ص:168).
(4) هو أبو حفص، قتيبة بن مسلم بن عمرو بن الحصين الباهلي(49هـ- 96هـ) أمير فاتح من مفاخر العرب. نشأ في الدولة المروانية. ولي الري، وخرسان افتتح كثيراً من المدائن، كخوارزم، وسجستان، وسمرقند، وغزا أطراف الصين وضرب عليها الجزية، قتله وكيع بن حسان التميمي بفرغانه. قال أحد الأعاجم بعد قتله: ( ووالله لو كان فينا لجعلناه في تابوت واستفتحنا به غزونا). ( عن الأعلام للزركلي ج/5 ص:189).
(1) " أحمد بن الحسين الجعفي الكندي الكوفي، ولد بالكوفة سنة ثلاث وثلاثماية في محلةٍ تسمى كندة، قدم الشام في صباه وجال في أقطاره وما زال إلى أن ادعى النبوّة في بادية السماوة، وتبعه خلفّ كثير، فخرج إليه لؤلؤ أمير حمص فأسره وتفرّق عن أصحابه وحبسه طويلاً ثم استتابه وأطلقه ثم التحق بالأمير سيف الدولة بن حمدان، وذهب إلى مصر ومدح كافور الأخشيدي. قصد بلاد فارس ومدح عضد الدولة بن بويه قتل في موضع يقال له الصافية" . من مقدمة الديوان. ص: 3/4 .
No comments:
Post a Comment