Monday, January 9, 2012



Description: 080,Description: 514
 






المبحث الأول: ضوابط ومنطلقات لا بد منها في دراسة القيمة في الفكر الإسلامي:

مقدمة في الخطوات والتساؤلات:
    بعد أن عرضنا مفهوم القيمة في المصطلح العام ثم عند الفلاسفة والاقتصاديين وفي علم الاجتماع نخلص الآن لعرض القيمة في الفكر الإسلامي وسنسير في هذا المبحث حسب الخطوات الآتية:
أ-   مصادر القيمة في الإسلام.
ب- القيمة في الدراسات الإسلامية.
    ج-  أنواع القيم الإسلامية وصفاتها.
    د-   أثر القيم الإسلامية في حياة الفرد والأمة.

    ولقد وضعت في ذهني تساؤلات ٍ عدة،ً لتكونَ حاضرة ً خلال سيري هذه الخطوات،  ولتوجه عنايتي واهتمامي ليس في الإجابة عنها فحسب، ولكن لتلقي بضوئها على كل ما أكتبه في هذا المبحث.
ومن هذه التساؤلات:
    1-            ما الفرق بين مباحث القيم في الفكر الإسلامي التراثي وهذه المباحث في الفكر الإسلامي الحديث؟
  2-    ما سر غزارة الدراسات الغربية حول القيم؟ وهل تكمن وراء هذه الغزارة حاجة الغرب للقيم في مواجهة شح شمعة الإيمان عندهم؟ أو بالأحرى نضوب زيت سراج عقائدهم؟ أم الذي يكمن وراء ذلك هو حاجتهم للقيم عاملاً إنسانياً موحداً بديلاً للعقيدة وذلك نظرا ً لاختلافهم عقدياً وتعدد المعتقدات القديمة والحديثة في مجتمعاتهم؟
    وبالتالي، أليس لاهتمام علماء الغرب المسيحي بمباحث القيم بهذا القدر علاقة ٌ بنظرتهم لطبيعة عقيدتهم من جهة "الثالوث" ولضعف إيمانهم بمصدرها "الأناجيل" وتعددها، أو لغياب العلم القطعي – حسب اعترافهم- بمصدر شريعتهم من جهة ثانية([1]).
    أليس في عقيدتهم أن الإيمان بالمخلـِّص يعتق من الذنوب صغيرها وكبيرها؟؟ وفي ظل غياب شريعة تبيِّن الحلال والحرام،  والحق والباطل،  والظلم والعدل و.... و..... يختلف الناس،  نظرا ً لاختلاف أهوائهم وميولهم وحاجاتهم و..... فوجب البحث عندهم عن معيار ومرجع وضابط، فوجدوا القِيَم.

    3-            هل نجد في مباحث القيم مباحث، ما إن غابت عن ساحة الفكر الإسلامي أصيب فكرنا بنقص أو خلل؟
  4-    ما الداعي إلى العمل والبحث عن منظومة قيمية إسلامية على نسق منظومة القيم الغربية؟؟ وما أثرها في حياة  المسلم فردا ً وأمةً؟
ولما كنا قد بيَّنا في مباحث القيمة في الفلسفة والاقتصاد وعلم الاجتماع نظرة الإسلام فيما طرح من خلال نقاشنا للأفكار الواردة في تلك المباحث،  فإننا سنحاول أن نجمل القول هنا بتركيز واختصار تجنبا ً للتكرار.

مصادر القيمة في الإسلام:
    إن المتأمّل في حياة المسلم اعتقاداً وسلوكاً، وفي علاقاته مع خالقه،  ومع نفسه ومع المخلوقات الأخرى: جماداً كانت أو إنساناً أو حيواناً أو نباتاًً... إلخ، يرى شمول المنهج الإسلامي الرباني، وتناسق حركة المسلم مع هذا الوجود وفق هذا المنهج.
فمن أركان الإيمان (العقيدة)، التي أولها الشهادة بوحدانية الله عز وجل، والشهادة بصدق رسالة محمد عليه الصلاة والسلام، التي يتوصل إليها بإعمال العقل،  فيسلـِّم المسلم المؤمن بسلطان هذه العقيدة على قلبه وجوارحه، إلى أركان الإسلام "العبادات" التي تنطلق همته وجوارحه بممارستها، إلى الشريعة الغراء "المعاملات" التي تَولّى الفقهُ تبيان الأحكام في كل الأمور على مستوى الفرد والجماعة حكما ً وحاكما ً ومحكوما ً. ومن خلق السماوات والأرض إلى خلق الإنسان إلى فناء هذا الكون والوقوف بين يدي الديّان بما في ذلك كله من مراحل. إن المتأمِّل في هذا كلِّه يرى أن الإسلام "هو الرسالة التي امتدت طولا ً حتى شملت آباد الزمن وامتدت عرضا ً حتى انتظمت آفاق الأمم وامتدت عمقا ً حتى استوعبت شؤون الدنيا والآخرة"([2]).
    وعلى هذا الأساس، فإن المسلم  ينطلق من هذا التصور الإسلامي للكون، وللإنسان في الدارَيْن الأولى والآخرة، ويستطيع أن يُرجع الفروع والجزئيات والتفصيلات كافة إلى هذا التصور عقيدة وعبادات ومعاملات، لأنها كلها صادرة عن نظام شامل كامل كلي لايقدِّمُ الحلول للحالات المستجدة ارتجالاً، ولا يصف علاجات للمشكلات مجزأة متباعدة في معزل عن هذه النظرة الشاملة الكاملة. والوقوف على خصائص هذا التصور الإسلامي المتكامل يأخذ بيد الباحث عن أي جزئية ليردها إلى موضعها في الكل، وهو إذ يتتبع علاقة الجزء بالكل ينعم بلذة عارمة تحمله على التعمق لاكتشاف هذا التكامل والتناسق وما يصدر عنه – أي التصور الإسلامي- من تنظيم لكل شؤون الحياة في كل جانب من جوانبها([3]).
1- فجميع ما في الإسلام من عقائد وعبادات ومعاملات متكفل بتحقيق كل مصالح العباد بقسميها الدنيوي والأخروي، فالمسلم المتمسك بأحكام الدين في معاملاته مع الناس - من حيث هي أوامر إلهية - يأتمر بها فينال جزاء ذلك في الدنيا تحقيق منافعه، وفي الآخرة بلوغ مرضاة الله وجناته([4]).
    ويمتثل المسلم للأحكام الشرعية في سلوكه محققاً مقاصد الشارع مبتغياً رضا الله عز وجل. وهذه المقاصد جمعها العلماء في خمسة أصول هي: الدين والنفس والعقل والنسل والمال،  فكل ما يتوصل به إلى حفظ هذه الأصول هو مصلحة، وكل عمل يؤدي إلى الإضرار بأصل منها هو مفسدة([5]).
ويتوصل إلى حفظ هذه الأصول الخمسة بتقسيم ما يندرج تحتها من أمور إلى ثلاثة اعتبارات هي:
           أ‌-    الضروريات، وتعرَّف بأنها "ما لا بد منه في حفظ هذه الأمور الخمسة، ويكون ذلك بإقامة أركانها وتثبيت قواعدها، وبدرء الفساد الواقع أو المتوقع عليها"
          ب‌-     والحاجيات، وتعرَّف بأنها " تلك التي قد تتحقق من دونها الأمور الخمسة، ولكن مع الضيق.وَشرعت لحاجة الناس إلى رفع الضيق عن أنفسهم.
ج-   التحسينيات، وتعرف بأنها "الأمور التي إذا تركت لا يؤدي تركها إلى ضيق، ولكن مراعاتها متفقة مع مبدأ الأخذ بما يليق وتجنب ما لا يليق ومتماشية مع مكارم الأخلاق ومحاسن العبادات"([6]).

    ويمكننا أن نذهب أبعد من ذلك فنقول: إن كل أمر يمكن للمسلم أن يبتغي فيه رضوان الله تعالى. " عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ. إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ"([7]). فكلامه وصمته وأكله وصومه، وسيره ونومه وحبه وكرهه... إلخ يمكن أن يتعبد به طالباً رضا الله.
    وبناءً على هذا التصور الإسلامي سنبحث عن مصدر القيمة في الإسلام.
    إن مصدر القيم في الإسلام، هو العقيدة والتشريع فيه، وهما من عند الله حقّاً، فالقيمة لا تنفكّ مرتبطة بعقيدة المسلم وإيمانه قوة وضعفاً، وبفهمه للأحكام الشرعية وبمقاصد الشريعة السمحة. وكأني بها جهاز تحكم يأمر، وينهى، فنسير مهتدين بهذه الأوامر والنواهي. والاستجابة للأوامر والنواهي مرهونة بسلامة الاعتقاد وبقوة الإيمان وبوضوح الأحكام الشرعية من وجوب، وندب، وتحريم، وكراهة، وإباحة.

    فقد عمد علماء الفقه الإسلامي إلى ضبط سلوك المسلم وتعامله،  في أحكام خمسة،  تتفاوت من حيث قوةُ إلزامها،  من الواجب فعله حتى الحرية في الاختيار أي المباح. "وذلك لأنه إذا اقتضى طلب فعل، فإن كان اقتضاؤه له على وجه التحتيم والإلزام فهو الإيجاب، وأثره الوجوب، والمطلوب فعله هو الواجب. وإن كان اقتضاؤه ليس على وجه التحتيم والإلزام فهو الندب، وأثره الندب، والمطلوب فعله هو المندوب. وإذا اقتضى كفَّا عن فعل فإن كان اقتضاؤه على وجه التحتيم والإلزام فهو التحريم، وأثره الحرمة،  والمطلوب الكف عن فعله هو المحرَّم. وإن كان اقتضاؤه له ليس على وجه التحتيم والإلزام، فهو الكراهة، وأثره الكراهة، والمطلوب الكف عن فعله هو المكروه. وإذا اقتضى تخيير المكلف بين فعل شيء وتركه فهو الإباحة، وأثره الإباحة والفعل الذي خير بين فعله وتركه هو المباح"([8]).

ولمّا كان مصدر العقيدة والشريعة واحداً وهو الله عزَّ وجلّ،  وقد بيّن لنا ذلك في القرآن الكريم، وقد أمرنا أن نلتزم ما يطلبه منا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم،  وننتهي عما نهانا عنه،  في كتابه الموحى إليه: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا [الحشر: 59/7].

    ولمّا جاءنا الخبر اليقين ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 53/3-4] وثبتت لدينا وحدة المصدر، حتى المصادر الأخرى المتفق عليها والمختلف فيها، من إجماع وقياس واستحسان وعرف ومصالح مرسلة،  فإنها ترجع إلى هذين المصدرين. حيث يُعمل العقلُ فيها في الكشف عن مراد الله عز وجل،  ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، باستخدام قدراته، وانطلاقاًً من قدسية النص الثابت الصحيح.   فكما يمكن للعقل أن يخطئ في الكشف عن المراد من النص الثابت الصحيح، أي الحكم المستنبط منه، كذلك يمكن أن يخطئ في قياسه أو استحسانه... فإذا اتفقت العقول المؤمنة على حكم، سواء أكان دليله نصاً قرآنياً قطعي الثبوت أم حديثاً شريفاً لا ترقى طرق إثباته إلى قطعية ثبوته،  فإن ذلك أدعى للوثوق بهذا الحكم الشرعي وبصوابيته.
    وهذا لا يعني ثبات الحكم مطلقاً،  بل يعني أن على العقل أن يبحث أولاً في مدى صحة النص،  فإذا تأتَّى له ذلك أعمل قدراته في استنباط الأحكام من هذا النص وفق أصول وشروط معروفة. فليس لكل أحد أن يستنبط، فلا بد له بعد سلامة العقيدة، وصفاء القصد من عدة علمية تؤهّله لمثل هذه المكانة "استنباط الأحكام الشرعية".
    وبناء على فهم المسلمين لقدسية النص،  وإقرارهم بإمكانية اختلاف الأحكام المستقاة منه،  نفهم السعة في ديننا وفي اختلاف الأحكام من مذهب إلى مذهب،  بل وداخل أتباع المذهب الواحد. وكلما ابتعدنا عن الأحكام الأساسية،  نجد سعة في اختلاف الأحكام التفصيلية الفرعية التي تتوزع في اتجاهات حياتنا اليومية أمةًً وأفراداًً.  فهناك الكثير من الأحكام في العبادات اختلف الفقهاء فيها، كوجوب قراءة الفاتحة في الصلاة([9])  والقنوت([10]) والسهو([11]) وفي زكاة الزروع ([12]) ومناسك الحج([13])  وكذلك في المعاملات والعقود.
    وإنَّ جولة سريعة في كتابٍ من كتب الفقه التي ذَكَرَت الأحكام على المذاهب الأربعة أو غيرها،  تعطي فكرة واضحة عن السعة التي يتمتع بها المسلم في الكثير من الأحكام الفرعية التفصيلية. فهذا سيدنا عثمان رضي الله عنه وأرضاه،  يرد على من اعترض على جمعه الكثير من الأموال في مقابل من ينفقها في سبيل الله قائلاً:  هو ينفقها في سبيل الله وأنا أجمعها في سبيل الله. والحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يقر فعل سيدنا أبي بكر وفعل سيدنا عمر رضي الله عنهما في صلاة الوتر حيث كان سيدنا أبو بكر الصديق([14]) يصليها
بعد العشاء، أما سيدنا عمر بن الخطاب([15]) فكان يؤخرها فينام وينهض ليصليها.


فقال لأبي بكر أخذ هذا بالحزم،  وقال لعمر:  أخذ هذا بالقوَّة([16]).
وعلى هذا الأساس، نرى أن المسلم يرد علاقاته بكل أمر إلى أصل من الأصول الشرعية أو قاعدة من القواعد الفقهية، أو مقصد من مقاصد الشريعة الغراء. فليس هناك من أمر صغر أو كبر إلا ويمكن فعل ذلك فيه. وهكذا فالحلال والحرام والمباح والمندوب والواجب من الأعمال والأقوال وحتى المشاعر هي ساحة نشاط المسلم بكل تفاصيلها. وبكلمة واحدة، إن أمر المسلم كله مرتبط بعقيدته وفق أحكام شرعية.

    إذاً وبناءً على ما تقدّم، نجزم أن القيم مصدرها شرعُ الله عزّ وجلّ. فالقيم في الإسلام تقررها إرادة الله عز وجل. وليس المقصود أنه عز وجل بَيَّنَ حكم كل أمر في كتابه، أو في سنّة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولكن الكتاب والسنة اشتملا على الأصول التي تلقي بظلالها على الفروع كلِّها. فيمكننا أن نستنير بمقاصد هذه الشريعة في أعمالنا وأقوالنا ومشاعرنا، وبغير كتاب الله وسنة رسوله ليست هناك وسيلة يمكننا بواسطتها التوصل إلى معرفة القيم([17]).
    ويذهب إلى هذا عبد الحليم محمود حيث يرى أنَّ القيم المطلقة والثابتة ليست من صنع العقل ولا من نتاجه([18]). والشريعة جاءت هادية للعقل.... وهذا ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة، وأكدوا أنه لا حكم للعقل في حسن الأشياء ولا قبحها فالشرع قد أثبت للأشياء حسنها وقبحها. فما حسَّنه الشرع فهو حسن وما قبَّحه فهو قبيح([19]).
    والعقل المستنير بكتاب الله وسنّة رسوله يمكنه أن يستنبط حكماً لما يستجدّ من أمور في مختلف مجالات الحياة. ولا تعارض بين ما جاء به الشرع وما يهدي إليه العقل السليم شريطة أن يكون هذا العقل قد تربى في محضن الشريعة ويتخلى عن الهوى ويعرف حدوده([20]). إضافة إلى ضرورة تحصيل ملكات الاستنباط.
فالأقوال في الإسلام، ليست أوعية هوائية تهزّ أوتاراً صوتية ، وقد بيّن القرآن الكريم أن ﴿ما يلفظ من قولٍ إلاّ لديه رقيب عتيد [سورة ق: 50/18]. وقال عليه الصلاة والسلام "وهل يَكُب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلاّ حصائد ألسنتهم"([21]).
وقد حضَّ القرآن الكريم على قول المعروف ﴿ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى [البقرة: 2/263].
    وهكذا يجب على المسلم أن يراقب لسانه في كل لفظة، فهي إن خرجت فإما له وإما عليه. ولا يؤاخذنا العفوّ الكريم باللغو في الأيمان. أما اللغو في الحديث فمنهيّ عنه﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون: 23/3] وكأني بسورة  الحجرات تقدم النموذج العالي الرباني لما يجب أن تكون عليه ألسنتنا. فقد عالجت حتى مسألة درجة ارتفاع الصوت أو انخفاضه﴿ لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ [الحجرات: 49/2] ونهانا الله عز وجل عن تحريك ألسنتنا بالغيبة… ﴿وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرهْتُمُوهُ [الحجرات: 49/12]. وبيَّن لنا أيضاً أن الأقوال ترتبط بقائلها فليس قول الفاسق كقول التقي، لذلك نهانا أن نبني أيَّ موقف على قول أو نبأ الفاسق بل أمرنا أن نتبيَّن ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات: 49/ 6]. وقد وسم بالظلم الذين لم يتوبوا عن تحريك ألسنتهم بتنابز الألقاب ﴿ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [ سورة الحجرات 49/ 11]. وقد قدَّم القرآن الكريم في مواضع عدة أثر القول ومكانته ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [ سورة فُصِّلت 41/33].﴿ألَمْ ترَ كََيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ أصْلُها ثابتٌ وَفَرْعُها فيْ السَمَاءْ ﴾﴿ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبيثة كَشَجَرَة خَبيثة اجْتُثَتْ مِنْ ٍفَوْقِ الأرْض ما لها منْ قَرار]سورة ابراهيم 14/24-26[.
﴿ قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات 49/14]  ﴿لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا [البقرة: 2/104]
    ولنعرف كم هي خطيرة تلك الأقوال التي تخرج من أفواهنا علينا أن ندرك أن الدخول في الإسلام يبدأ عن طريق إعلان الشهادتين وقد تُخرجُ كلمةٌ قائلَها من الملَّة والعياذ بالله.
أما الأعمال فقد بيّن الله عّز وجلّ أن لكل عمل وزناً يُجزى الإنسان بمقداره ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ﴿ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة: 99/7و8 ] ﴿ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [يونس: 10/23] ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً [يونس: 10/61].
    ويبين الله عز وجل أن الحكم الشرعي له وحده إما بكتابه الكريم مباشرة وإما عبر رسوله الكريم ومن ثم بواسطة مصادر التشريع الأخرى، فيقول: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس: 10/59] ويأمر العزيز الحكيم في آيات أخرى بطاعة الله وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام وطاعة أولي الأمر ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً   [النساء: 4/59].

    وترتبط الأعمال بالنيات فلا بد لها من قصد وإلا كانت عبثاً والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى"([22]). أما المشاعر فإننا نرى أنها كالأقوال والأفعال، انعكاس لما يستقر في القلب من عقيدة. فلا يمكن للمسلم المؤمن أن يحب ما يكره الله ورسوله عليه السلام أو العكس. ويقول الله عز وجل في معرض طلبه من المؤمنين ذكوراً وإناثاً أن لا يكون لهم خيار إلا ما ارتضاه لهم، حبّاً له وتسليماً لحكمه. ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ  [الأحزاب: 33/36] ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً [النساء: 4/65].
    فعلى المؤمنين والمؤمنات أن يدفعوا عن أنفسهم كلَّ حرج فيما قضى الله عز وجل بل وأكثر من ذلك، فإنه عليهم أن يسلموا بمطلق الرِّضا. وعليهم أن تكون مشاعرهم وما في قلوبهم إلى جانب الله ورسوله وشرعه، فالمؤمنون لا يمكن أن تُعمرَ قلوبُهم بمودة من حادّ الله ورسوله. ﴿لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [ المجادلة: 58/22].
    حتى إن كَظْمَ الغيظ ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران: 3/134]، ومِشيةَ المؤمن ﴿وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان: 31/ 18]. وحبّ شيوع الفاحشة، ولو لم نمارسها نحن ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ   [النور: 24/ 19]. وحب الطغاة والأنداد ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة: 2/165] إن هذه الحالات كلّها الشعورية النفسية من كظم الغيظ إلى المرح والاختيال والفخر بالنفس والعجب بها، وحب شيوع الفاحشة وحب الظّلاّم والطغاة، بيّن الله عز وجل قيمتها وموقعها، فرغّب بما يرضاه ويحبه، ونهى عمّا يأباه ويكرهه.
    وهكذا يتبين لنا أن لمشاعرنا - فضلاً عن أقوالنا وأفعالنا - قيمةً، ويكفي أن تقرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "المرء مع من أحب" لتدرك ما للمشاعر من قيمة في الإسلام. ويؤكد كل ما تقدم أن مصدر قيمنا في كل قول وعمل وشعور هو الله عزّ وجلّ.
ولم يكتف الباحثون في موضوع القيمة في تحديد مصدرها ولكنهم شغلوا أنفسهم في البحث عن كيفية اكتسابها فقادهم ذلك للبحث في كونها غريزية أو مكتسبة حيث واجهتهم نصوص شرعية في الكتاب والسنة.
من مثل قوله تعالى﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات: 49/7]. وقوله عليه الصلاة والسلام: " إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء "([23]).
    وبالتالي أثاروا مسألة دور العقل في كونه مصدراً من مصادر القيم أولاً. فرغم أن هناك إجماعاً عند أهل السنة والجماعة أن مصادر القيم هي مصادر التشريع الإسلامي فإن البعض لم يسلّم بكون المصدر نقلياً فحسب.
    ويرى أحد الباحثين أن المجتمع بما فيه من تفاعل بشري لا يمكن أن يكون مصدراً للقيم. ويستدل على ما ذهب إليه بأن الله تعالى هو الذي فطر الناس جميعاً. وكما ورد في الحديث الشريف أنهم مولودون على الفطرة([24]).
    كما يذهب إلى أن الاستحسان لا يمكن أن يكون مقياساً أو مرجعاً للأخلاق والقيم(3) وإننا لا نرى تعارضاً بين هذين الاتجاهين فالنقل وحده لا يشمل كلَّ القيم ولو كان ذلك واقعاً لكانت صفة الثبات العددي من صفات القيم ولأمكن حصرها.

    ولمّا كانت القيم تتولد وتزداد، كان لا بد للعقل الاجتماعي الإنساني من دور في هذا التوالد وهذه الزيادة، وبالتالي لا بد له من دور في رفض أو قبول المستجد من هذه القيم، ولكن هذا الرفض أو القبول لا يخضع لمصلحة أو لهوى، بل لا بد من أن يستهدي الشريعة في حكمه أو موقفه. وبهذا نفهم الموقف الأول بأن مصدر القيم لا يمكن أن يكون نقلياً فحسب، وكما نفهم الاتجاه الآخر – بأن المجتمع الإنساني بما فيه من تفاعل لا يمكن أن يكون مصدراً للقيم- بأن الله عز وجل خلق الإنسان وسخر له ما في الكون. وبناءً  على طبيعة الأشياء ومكوناتها وعلاقاتها بفطرة الإنسان وإنسانيته تتشكل القيم، وهذا لا ينفي دور المجتمع في تشكيل قيم جديدة ولا يتعارض مع كون الله وشريعته هما مصدر القيم من حيث أساسها ومن حيث مرجعية الحكم الإلهي في قبول أو رفض المستجد منها.
    وهكذا نفهم التعارض الظاهري الشكلي بين الاتجاهين، ولا نظن أن المقصود هو عودة إلى مسائل كلامية من مثل: هل الإنسان مخير أم هو مسير؟؟ وما معنى أنّ قلوب العباد بين إصبعي الرحمن يقلّبها كيف يشاء([25])؟؟ وهل يستفاد من هذا الحديث سلب إرادة الإنسان؟ وبالتالي من سُلِبَت إرادته فَعَلامَ يُحاسَبُ؟!
ذلك أنّ المخرج من هذا الإشكال ينطلق من فهم أن لله عز وجل على الناس الحجة ولا يصح أن يكون العكس. وتتمثل هذه الحجة في أربعة أمور:
1- فطرة التدين: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم: 30/30] ﴿  وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف: 7/ 172].
    فالإنسان مفطور على التوحيد وشهد بذلك في العالم العلوي قبل أن يهبط آدم عليه السلام إلى الأرض. وما يحيط بالإنسان من أبوين وعناصر اجتماعية أخرى إما أن يزكي هذه الفطرة وينميها وإما أن يسهم في انحرافه عنها، مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلّم ((يولد المولود على الفطرة)) ([26]) ، وقوله تعلى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 90/10].
2- هبة العقل: ﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون [النور: 24/61].
﴿ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: 30/28].
﴿ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ   يَعْقِلُون [البقرة: 2/164].
وما أكثر الآيات التي تحض على إعمال العقل. وقد جاءت في سياقات ومواقف مختلفة ﴿ أفلا تعقلون وقد وردت بهذه الصيغة ثلاث عشرة مرة، و﴿ أَفَلا يَعْقِلُونَبهذه الصيغة مرة واحدة.

﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وقد وردت في هذه الصيغة ثماني مرات.
﴿ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ وردت مرتين.
﴿ يَعْقِلُونَ وردت بالإثبات عشر مرات.
﴿ لاَ يَعْقِلُونَ بالنفي وردت إحدى عشرة مرة.
﴿ نَعْقِلُ وردت مرة واحدة.
    والمستقري لهذه الآيات يلحظ تنوع ورودها مرات مع الاستفهام الإنكاري ليفيد الحض مستخدماً "أفلا" ومرات مع "لعلّ" التي تفيد الرجاء الذي يتعداه في السياق إلى الطلب والأمر بإعمال العقل.
ثم يبيّنُ بالإثبات "يعقلون" مواقف المؤمنين الناجين، وبالنفي "لاَ يَعْقِلُونَ" مواقف الهالكين والعياذ بالله. ويُتبعُ ذلك أسلوب الشرط ليوقظ الهمم في استعمال العقول "إن كنتم تعقلون".
والجدير بالملاحظة أنه لم ترد مفردة من جذر (ع – ق – ل) مسندة إلى المتكلم المفرد أو المخاطب المفرد، بل جاءت كلها بالإسناد إلى الجمع. وكأنها إشارة إلى ثمرة التفكير الجماعي وضرورة استفادة المسلم من ثمار عقول الآخرين، ممن سبقوا أو من الذين يعاصرهم.
فلا يملك أحدٌ من الناس أن يدَّعي عدم قدرته على النظر  في آيات الله وقد هداه آلة التفكير والتفكر، وجعله بين أناس يمارسون التفكير ويتوصلون بإعمال عقولهم إلى إثبات وحدانية الله عز وجل.

3- إرسال الرسل: قال الله عز وجل ﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ﴿وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ﴿ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً [النساء4/الآيات163-164-165-174]
وبعد أن مكّن الله عز وجل ابن آدم بفطرته التي فطر الناس عليها وبإهدائه إيّاه القدرات العقلية أرسل إليه الرسل مبشرين منذرين لئلا يكون لهم على الله حجةٌ. فإن ضُلِّلت الفطرة وتاه العقل، جاءت الرّسل لتعيد الأمر إلى نصابه، فتضيء جنبات الفطرة وتستثير العقول بهديهم ودعوتهم بما أُيّدوا به من معجزات، فمن اتبعهم أفلح ومن عاندهم وخالفهم وكفر بهم ما كان لينجح. ﴿ وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى [النساء: 4/115]، وقد أمن الله عز وجل الناس ولم يَكِلْهم إلى عقولهم وإرادتهم فرفع عنهم العذاب حتى يبعث إليهم الرسل ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا [الإسراء: 17/15].

4- الإرادة: إن العدل الإلهي يقتضي أن يتمتع الإنسان بإرادة الإحجام أو الإقدام على فعل عملٍ أو ترك أمرٍ ما، طاعةً وخوفاً، أو معصيةً وعناداً. وذلك باستطاعة الإنسان، إذ إنَّ الله عزّ وجل زوّده بفطرة ثم بقدرات عقلية، وبعد ذلك أرسل إليه الرسل يبينون له مراده عز وجل ﴿ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 18/29].
ولن نتوقف عند نقاش الجبرية أو القدرية في هذه المسألة ونلتزم موقف أهل السنة والجماعة المتمثل في فعل عمر رضي الله عنه وقوله: رداً على قول أبي عبيدة بن الجراح([27]) : " أفراراً   من قدر الله (...تفرُّ من قدر الله إلى قدر الله...) ([28]) يوم نادى بالناس الذين كانوا في صحبته ليرجعوا معه ولا يدخلوا أرض الشام التي كان قد وقع بها مرض الطاعون.
    فلا تعارض بين إيماننا بأن كلَّ شيء بما في ذلك مشيئة العبد يتبع مشيئة الله، أي إيماننا بالقضاء والقدر، وبين اعتقادنا أن الإنسان مُنِحَ إرادة الفعل والترك وعلى أساسها يُحاسب.
    وقد بيّن الله عز وجل ذلك في قوله تعالى﴿ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ ﴾﴿ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير: 81/28-29].

    وعلى هذا الأساس نرى أن الإنسان بإرادته يختار أن يلتزم قيمةً ما أو يرفضها وذلك بناءً على عقيدته ونظرته لوجوده وللكون من حوله رغم تأكيدنا على أن للأبوين خاصّة، وللأسرة والعوامل الاجتماعية عامة أثراً فعّالاً فيه.إذ إنَّهم يسهمون إلى حدٍّ كبيرٍ في بناء شخصية الإنسان، عقيدةً وعقليةً ونفسيةً… الخ. لكن هذا لا ينفي مطلقاً دور إرادة الإنسان بعد فطرته وهبة عقله ودعوة الرسل وهدايتهم.

الضوابط والمنطلقات التي تبنَّيناها في البحث عن مفهوم القيمة في الدراسات الإسلامية:

     ونخلص الآن إلى عرض مفهوم القيمة إسلامياً في دراسات بعض الإسلاميين، معرضين عن نقاش التعريفات التي طالعنا بها الفلاسفة وعلماء الاجتماع أو علماء النفس أو الاقتصاديون، ذلك أننا عرضنا لها عند أهل كلِّ علم من هذه العلوم تحت عنوان خاص. وكذلك لن نتوقف عند مقارنة القيمة بالميول أو النزعات أو الاتجاهات أو الحاجات أو الدوافع أو السمات لأنك لن تجد واحدة من هذه كلّها يمكن أن تشمل مفهوم القيمة بل كلٌّ منها يشكّل صفة من صفات القيم عامّة أو صفة من صفات قيمةٍ محدّدة. وبعد ذلك سنحاول تعريف القيمة من وجهة نظرنا، ذلك بعد وضع ضوابط وتحديد منطلقاتٍ قبل أن نشرع في التعريف. في محاولة لتأصيل التعريف إسلامياً وتجنباً للشطط. ومن هذه الضوابط والمنطلقات:

1-             محاولة استيعاب تعريفات الباحثين المسلمين للقيمة بعد عرضها ونقاشها.
2-     استحضار المعنى اللغوي ومستلزمات الجذر (ق- و- م) كما وردت في المعاجم. وقد استخلصتها وجمعتها في مبحث (القيمة لغة) .
3-             استحضار علاقة سلوك الإنسان عملاً وتركاً، صمتاً وقولاً، وشعوراً بعقيدته.
4-             استحضار علاقة سلوك الإنسان بنظرته إلى إنسانية الإنسان والكون من حوله.
5-      توظيف الآثار الواردة من كتاب وسّنة مما له علاقة بمفهوم القيم من مثل قوله تعالى: ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة: 99/7و8]. وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم "الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة… أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق… والحياء شعبة من الإيمان"(1).
    وأحاديث وزن الأعمال والأقوال "كلمتان خفيفتان على اللّسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله العظيم سبحان الله وبحمده"(2) وقال عليه الصلاة والسلام: "لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن عمُره فيما أفناه، وعن علمه فيمَ فعل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيمَ أبلاه"(3)


([1]) المحيا،  مساعد بن عبد الله؛  القيم في المسلسلات التلفازية: ص: 62. 
([2]) القرضاوي، يوسف؛ الخصائص العامة للإسلام: ص: 105.
([3]) قطب، سيد؛ العدالة الاجتماعية في الإسلام: ص: 20 وما بعدها.
([4]) البوطي، محمد سعيد رمضان؛ ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية: ص: 85.
([5]) الشاطبي، إبراهيم بن موسى؛ الموافقات في أصول الشريعة: ج1/ ص: 85.
([6]) البوطي، محمد سعيد رمضان؛ ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية: ص:  120 وص: 121.
([7]) أخرجه الإمام مسلم، ابن الحجاج النيسابوري؛ في الصحيح، كتاب: الزهد والرقائق ورقمه(53) ، باب: المؤمن كله خير، ورقمه(14) ورقم الحديث: 2999، ج4/ص:1815 عن صهيب الرومي رضي الله عنه.
([8]) خلاف، عبد الوهاب؛ علم أصول الفقه: ص: 105.
([9]) راجع الصابوني، محمد علي؛ تفسير آيات الأحكام: ص: 54.
([10]) راجع المقدسي، ابن قدامة، عبد الله بن أحمد؛ المغني: ج1 / ص: 151.
([11]) راجع الشافعي، محمد بن إدريس؛ الأم: ج1/ص: 128.
(4) راجع القرضاوي، يوسف؛ فقه الزكاة: ج1/ص: 349 وما بعدها،وَابن قدامة المقدسي؛ المغني: ج2/  ص: 9.
([13]) انظر ابن مودود، عبد الله بن محمود؛ الاختيار لتعليل المختار: ج1/ص: 158.
([14]) هو عبد الله بن أبي قحافة،عثمان بن عامر ولد سنة 51 قبل الهجرة، أول الرجال إسلاماً، رافق الرسول صلى الله عليه وسلم في هجرته، شهد المشاهد كلها مع الرسول صلى الله عليه وسلم، كان سيداً من سادات قريش وكبارموسريهم، خلف الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ، وقاد حروب الردة. توفي سنة 13 ( نقلاً عن الأعلام للزركلي، خير الدين – ج4/ص:102 ).
([15])عمر بن الخطاب [40ق.هـ-23هـ = 584م-644م] بن نفيل القرشي العدوي، أبو حفص، ثاني الخلفاء الراشدين أول من لقّب بأمير المؤمنين، الصحابي الجليل، الشجاع الحازم، صاحب الفتوحات. يُضرَب بعدله المثَل. كان في الجاهلية من أبطال قريش وأشرافهم، وله السّفارة فيهم، أسلم قبل الهجرة بخمس سنين وشهد الوقائع. (الزِّرِكلي، خير الدين؛ الأعلام، ج5/ص: 45.(
([16]) أخرجه أبو داود، سليمان بن الأشعث،في السنن:  كتاب: الصلاة، باب: في الوتر قبل النوم ورقمه(343)، ورقم الحديث: 1434  ج2/ ص: 66.
([17]) القيسي، مروان إبراهيم؛ المنظومة القيمية الإسلامية: ص: 19.
([18]) محمود، عبد الحليم؛ أسرار العبادات في الإسلام: ص: 15.
([19]) الشهرستاني، أبو الفتح، محمد بن عبد الكريم؛ المِلل والنِّحَل: ص: 374.
([20]) ابن تيمية، عبد الحليم؛ دَرْء تعارض العقل والنقل: ص: 194 وما بعدها.
([21])أخرجه الامام الترمذي( محمد بن عيسى بن سورة) في كتاب: الإيمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باب: ما جاء في حرمة الصلاة ورقمه(8 ) ورقم الحديث2616ص: 741، وقال: حديث حسن صحيح.
(1) متفق عليه، وهو عند الامام البخاري، محمد بن إسماعيل؛ في الصحيح : كتاب: بدء الوحي، ورقمه (1) باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه  وسلم، ورقمه(1) ورقم الحديث(1) : ص:13 واللفظ له. وفي صحيح الإمام مسلم، ابن الحجاج النيسابوري؛ في كتاب: الإمارة،ورقمه(33) باب: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنية" وإنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال، ورقمه(45) ورقم الحديث: 1907، ج3/ص: 1204 عن عمر رضي الله عنه.
([23]) أخرجه ابن حنبل، الإمام أحمد؛ في المسند، باقي مسند عبد الله بن عمرو رقم الحديث: (6569)ج2/ص:168.
(2) قال صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولَد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه، كمثل البهيمة تنتج البهيمة هل ترى فيها جدعاء"، متفق عليه، رواه الإمام البخاري، محمد بن إسماعيل؛ في الصحيح: في كتاب الجنائز، ورقمه(23) باب: ما قيل في أولاد المشركين، ورقمه(92) ورقم الحديث: 1385، ص: 256، والإمام مسلم، ابن الحجاج النيسابوري؛ الصحيح، كتاب:  القدَر ورقمه(46)، باب: معنى كل مولود يولد على الفطرة ورقمه(6)، ورقم الحديث: 2658، ج4/ ص: 1624 عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) الغضبان، محمد منير؛ من مَعين التربية الإسلامية: ص: 14.
(1) مر الحديث وتخريجه ص:64.
(2) مر الحديث وتخريجه ص:64 .
([27]) أبو عبيدة بن الجراح: هو عامر بن عبد الله بن هلال الفهري القرشي، من كبار الصحابة ، فاتح الديار الشامية، أحد المبشرين بالجنة، شهد المشاهد كلها، وقال فيه صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي أمين وأميني أبو عبيدة بن الجراح". توفي بطاعون عمواس سنة 18 . وله أربعة عشر حديثاً مروياً.( عن الرسالة المحمدية  لسيد سليمان الندوي.ص:133).
([28])  متفق عليه، أخرجه الإمام البخاري، محمد بن إسماعيل، في صحيحه في كتاب: الطب ورقمه(76) باب: ما يذكر في الطاعون ورقمه(37) ورقم الحديث(5729) ص1065(. وأخرجه الإمام مسلم بن الحجاج، في صحيحه في كتاب: السلام ورقمه(39) باب: الطاعون والكهانة ونحوها ورقمه(32) ورقم الحديث(2219) ج4/ ص: ( 1389).
(1) متفق عليه: وهو في صحيح الإمام مسلم، ابن الحجاج، في كتاب: الإيمان ورقمه(1)، باب: بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها ورقمه(12)، ورقم الحديث(57) ج1/ص:65 وفي صحيح الإمام البخاري ، محمد بن إسماعيل؛ بلفظ: "بضعٌ وستون"، كتاب: الإيمان، ورقمه (2) باب: أمور الإيمان ورقمه(3)، ورقم الحديث: 9، ص: 17.
(2)  متفق عليه:أخرجه الإمام البخاري، محمد بن إسماعيل؛ في الصحيح: كتاب: الدعوات ورقمه(80)، باب: فضل التسبيح ورقمه(67)، ورقم الحديث: 6406، ص: 1170، وأخرجه الإمام مسلم، ابن الحجاج النيسابوري؛ في الصحيح، كتاب:  الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ورقمه(48)، باب: فضل التهليل والتسبيح والدعاء ورقمه(10)، ورقم الحديث: 2694، ج4/ ص: 1144 عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) رواه الإمام الترمذي، محمد بن عيسى بن سورة، كتاب، صفة القيامة والرقائق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،باب: في القيامة ورقمه(1 )، ورقم الحديث: 2422، ص: 691، وقال: حديث حسن صحيح.

No comments:

Post a Comment