المبحث الثالث: تحديد المعايير في البحث عن مفهوم التربية عند غير المسلمين.
وفي استعراضنا لمفهوم التربية عند غير المسلمين، سنحاول الاحتكام إلى بعض المعايير، والالتفات إلى بعض الاعتبارات والعوامل التي نراها مؤثرة في تشكل مفهوم التربية خاصة، والمفاهيم الأخرى عامة . وسأناقش وأعلق من وجهة نظر إسلامية آخذاً تلك المعايير والاعتبارات والعوامل بعين الاعتبار منها:
1- انتماء المعرِّف إلى معتقد، أو مذهب فلسفي، أو حضارة وثقافة … إلخ. وبالتالي نظرة ما ينتمي إليه تجاه الخالق-الكون-الإنسان.
2- نوع اختصاص المعرِّف، علم اجتماع - اقتصاد – علم نفس … إلخ.
3- البيئة السياسية التي كانت سائدة أيام صاحب التعريف.
4- التجربة الخاصَّة وأهم محطّات السيرة الذاتية للمعرِّف حيث أمكن.
6- علاقة التربية عامة، بالقيم من جهة وبالفلسفة من جهة أخرى.
7- موقف الإسلام من كل ما تقدَّم.
ومن المسلَّم به أن تختلف مفاهيم المصطلحات بين زمن وآخر، وبين بيئة جغرافية وأخرى، وذلك بفضل عوامل لا يمكن حصرها. لذلك سنحاول توظيف ما له علاقة واضحة مما يخطر ببالنا من هذه العوامل.
المبحث الرابع: التربية عند فلاسفة اليونان أو: "التربية الأثينية":
كانت التربية في أثينا عالة على الفلاسفة، وغاية أمرها تنمية الشخصية وتفتيح الملَكات، ولم تكن صورة المربّي كما في أذهاننا اليوم، بل كان عبداً يرافق الطالب ويَرفقُ به، بحيث يحمل كتبه ولوازمه. فكان يسمى (PEDAGOGUE) وهي كلمتان (PEDA) أي الطفل و (GOGUE) أي الخادم(1).
أ- التربية عند أفلاطون (427 ق.م – 347 ق.م):
ظلّت مفاهيم عالم المُثل سائدة في أثينا من بعد عودة أفلاطون من مصر متأثّراً بحضارتها حيث قال قولته الشهيرة: "أيها الإغريق إنما أنتم نيام". ومرتبة أفلاطون هي الأعلى في سُلَّم الفلسفة المثالية، ويمكن اعتبار جمهوريته من أبرز التحليلات الثاقبة الذكية التي عالجت قضايا التربية وحددت مفهومها على المستوى الفلسفي. فقد أشار أفلاطون إلى أن الحياة الطيبة تتضمّن المجتمع الجيد، وأن المجتمع الجيد يلزمه مُسبقاً تحديد النمط التربوي الذي يُبلور وجوده ويعمل على تحقيقه، وحدَّد أفلاطون الهدف من التربية في جمهوريته أنه تشكيل الرجل الحكيم، وذلك عن طريق الذكاء والسِّمات الطيبة الصالحة(2).
ونشير إلى أن الدكتور محمد خير عرقسوسي قرَن بين مفهومَي التربية و(البيداغوجيا)، بينما نرى رونيه أوبير في كتابه "التربية العامة" يطرح تساؤلاً مفاده أنهما مختلفتان. ويؤكد أن البعض يفهمهما بمعنى التربية الخُلُقية فحسب. بينما يرى البعض الآخر "هنري ماريون" في معجمه التربوي أن البيداغوجيا شيء مختلف عن التربية(3).
وسواء أكانت (البيداغوجيا) وَ (التربية) اسمين لمدلول واحد، أم اختلف مدلولاهما، فإن ذلك لا يعيق تحديد مفهوم التربية عند أفلاطون. فهي عنده: تحقيق ماهية الإنسان الحكيم. وهو قد عرَّف التربية بالهدف منها، لكنه لم يكتف بتحديد المفهوم تحديداً نظرياً وإنما راح يحاول الانتقال إلى الخطوة الثانية وهي: كيف يتحقّق ذلك؟
إذاً يمكننا أن نقول: إن التربية عند أفلاطون: "هي تحقيق ماهية الإنسان الحكيم عن طريق نظام تربوي". ولا شك أن هدفه من التربية هو: تحقيق ماهية الإنسان الحكيم، ونظامه التربوي، الذي اختاره للوصول إلى الهدف، أمران منسجمان مع منطلقاته الفلسفية، ومنظومته الفكرية. فمثاليته التي تَنْشُدُ الكمال في العدالة المُطلقة، والأخلاق، والحق … إلخ هي التي تقف من وراء ما كان يُدلي به من أن التربية: إعطاء الجسم والروح كلّ ما يمكن من الجمال، وكلَّ ما يمكن من الكمال"(2). وهنا عرَّف التربية بشكل أساسي بالعمل الذي نتوسله للوصول إلى الهدف وذلك في قوله: (إعطاء). فهو كما نرى تارة يقدّم التربية بهدفها وأخرى بوسائطها ووسائلها. وهذا حقيقة يدل على مدى ترابط أهداف التربية بوسائطها.
ولنترك أفلاطون يعرض لنا طريقته في التربية، فمن شأن ذلك أن يوقفنا على مساحة أوسع من مفاهيمه التربوية فلا نكتفي بمشهد واحد يمكن استخلاصه من تعريف التربية عنده.
يقول أفلاطون: يجب أن نعتبر تهذيب ذكاء الطفل وفهمه، أساساً لبيداغوجيا سليمة. ونعني به أن أول تجارب الطفل في الحياة هي شعوره باللذة والألم. فالتربية بمنتهى الصدق، هي ببساطة في هذه المرحلة الأولية: تعلّم الشعور باللذة والألم حيال الأشياء المناسبة. وذلك هو التكوين الذاتي لذوق خُلقي وفنيٍّ. ويكون هدف العملية التربوية كلِّها هو أن نحذف من المبدإ كلَّ تباعد غير مألوف بين الذوق والحُكم الذي يجعل الإنسان يجد لذّة في فنٍّ يراه عقله الخاص رديئاً، أو لا يجد لذة فيما يراه عقله طيّباً ، والوسيلة إلى ذلك - عنده – قواعد صحيحة في الموسيقى والفنون المتصلة بها وخاصّة الرقص. فليس هناك أي صعوبة في جعل التربية في مجال الذوق الموسيقي تربية أيضاً في مجال الذوق الخُلقي(3).
ويقول أيضاً: إن جسم الطفل وعقله يكونان في المراحل الأولى أكثر استعداداً ومرونةً للتشكُّل، بحيث إن التعامل معهما تعاملاً خاطئاً يؤدّي إلى أكبر الضرر. لذلك يجب أن يكون هناك - ومنذ البداية - إشراف عامٌّ، فلا نترك شيئاً لنزوات الأفراد من أرباب البيوت، ويجب وضع اليد على المولود في وقت مبكر جداً. فعندما يولد الطفل يجب أن تتأكَّد السلطات من أن الحاضنة تتيح له كلَّ الهواء والتمرينات اللازمة، ويجب أن نرد عنه الخوف بأن نغني له، وهذا أول أساس للخُلُق الشجاع الثابت الرَّزين. كما يجب أن نحفظ للطفل وداعته وتسليته ولا نسمح له أن يصبحَ نكِداً ومتبرِّماً وسريعَ الانفعال، وهذا يؤدي إلى تنمية العقل على نحو قوي. ويمكن في سن الثالثة البدء في تصحيح خطإ الأطفال تصحيحاً فطناً. ويجب تدريبهم على الألعاب المتنوّعة، ويُترَكون ليكتشفوا هذه الألعاب المبكرة بأنفسهم، وبدءاً من سن الثالثة يُؤتَى بهم ذكوراً وإناثاً ليلعبوا تحت إشراف سيِّدات يعيِّنُهنَّ الحكَّام. وهؤلاء – أي الحكَّام – سيرَون مستقبلاً أن هؤلاء المربيات يُنشئن الأطفال التنشئة المناسبة.
ويمكن البدء في الدروس من السادسة، ويُعزَل في هذه السن البنات عن البنين. ويوصي أفلاطون: أن يتعلَّم الأولاد الركوب واستعمال الأسلحة بكلتا اليدين اليسرى واليمنى دون تفريق. ثم يقرِّر أن المفيد من أنواع الرياضات هو الصيد والتدريب على الأعمال الحربية فحسب. أما بخصوص التربية العقلية فإلى جانب الموسيقى والرقص، نرى أفلاطون مشدوهاً بما رآه من ذلك عند فراعنة مصر من ألعاب يكتشف فيها الأطفال عوامل الأعداد، والمساحات، والأحجام(1).
أما في كتابه "الجمهورية" فيمكن أن نلخِّص آراءه التربوية من خلال الأسئلة التي وجهها والتي كانت تشغله، وتشكل الإجابة عنها – بالنسبة إليه – ردّاً على ما كان سائداً في عصره من ممارسات وأفكار، وحلاً للمشكلات التي كان يعاني منها مجتمعة في تلك الحقبة.
وأهم تلك الأسئلة(2):
· كيف يمكن الوصول إلى العدل المُطلق حتى يصبح أساساً للحياة الاجتماعية؟
· كيف تستطيع طبقة الفلاسفة أن تمسك زمام السلطة في الدولة؟
· كيف يمكن أن تصبح المعرفة أساساً لبناء اجتماعي جديد؟
وانطلاقاً من هذه الأسئلة يقسِّم أفلاطون مجتمعه المثالي إلى ثلاث طبقات ويضع لكل طبقة نظاماً تربويّاً خاصّاً:
1. طبقة الفلاسفة والتي تُعنى بالبحث عن المعرفة، ويتصف أهل هذه الطبقة بالحِكمة.
2. طبقة العسكر أو الجُند ومسؤوليتهم الدفاع عن البلاد، وسِمَتُهم الشجاعة والشرف والإقدام.
3. طبقة الصنّاع والحرفيين والعمال ومهمتهم تأمين المال لهم وللدولة، وفضيلتهم أنهم ضرع حلوب للدولة.
ونلاحظ أنَّ أفلاطون في تقسيمه المجتمع إلى هذه الطبقات الثلاث ينطلق من نظرته إلى قوى الإنسان الفرد. حيث يراه ثلاث قوى أيضاً:
1. قوى حكيمة عاقلة.
2. قوى غضبيّة شجاعة.
3. قوى شهوانية ولجامها العفّة.
وكما يصل الفرد – عنده – إلى العدل المُطلق والسعادة الشاملة، عندما يتحكّم العقل تماماً بزمام النفس وقوتها الغضبية، ويتحكّم كلّياً برغبات الفرد ويسيطر على أفعاله عامة. فعند ذلك تسير هذه القوى الثلاث منسجمة في طريق واحدٍ، فيتحقق لديه العدل المطلق والسعادة الشاملة. والمجتمع - عنده – فرد مكبَّر، ولا يكون إلا على شاكلة أفراده. فإذا سيطرت طبقة الفلاسفة على الجند والعمال وأطاعوها تماماً، يتحقّق للمجتمع ما يتحقق للفرد. ويتوسل أفلاطون لتحقيق هذه الأهداف التربوية وسائل مختلفة لكل فئة عمريّة ولكل مرحلة نمائية يصل إليها المتعلِّم على الشكل الآتي:
أ- إذا بلغ الطفل السادسة، وحتى الثامنة عشرة يتعلّم ضروب الرياضة والموسيقى. والرياضة لإصلاح شأن الجسد، والموسيقى ليتحصَّل له انسجامٌ روحيٌ ويتعلم في هذه المرحلة أسس الكتابة والقراءة والحساب والهندسة، من غير مواد منظمة ولا برنامج منظّم. بحيث لا يُجبر الطفل على دراسة أنواع خاصة من المعرفة، فحمله على أنواع من الرياضة مفيد لجسمه، على عكس حمله على فنون معرفية فإنها تضرُّ بعقله(1).
ب- ومن التاسعة عشرة إلى نهاية العشرين يخضعون لتدريبات مكثّفة لتحقيق مختلف الفنون العسكرية. ومن لا تظهر إمكاناته في المرحلة الأولى يصنّف مع الصناعيّين والعمّال ولا يلتحق بالمرحلة الثانية. أما من تظهر شجاعته وحِنكته العسكرية ولكن لا تسمح قدراته بالاستفادة من التربية العقلية الأرقى، فإنه يُلحق بطبقة العسكر.
ج- فإذا أتمَّ العشرين وحتى نهاية الثلاثين، يدرس من تظهر عليه علائم النجابة ودلائل الإبداع أنواعاً من العلوم كالحساب والهندسة والفلك بشكل متطور عما درسه في المرحلة الأولى. حيث تقدم هذه العلوم هنا وفق موادَّ منظّمةٍ وبرنامج محدّد، ويتمُّ ذلك بشكل عملي يستند إلى الجانب النظري. وعن طريق عرض مشكلات لتقديم حلول لها. وفي نهاية هذه المرحلة يُحدَّدُ الذين لا يمكنهم تجاوز دراسة علوم المادة إلى دراسة الفلسفة والوجود المُطلق. وهؤلاء يلحقون بالوظائف الصغيرة في المجتمع بينما يستمر أصحاب العقول الراجحة والمميزة في مرحلة أخرى هي:
د- المرحلة الخاصّة بدراسة الجَدَل والأفكار الكلّية، وتستمرّ من سن الواحدة والثلاثين حتى نهاية الخامسة والثلاثين. وهؤلاء – بزعمه – يصلون إلى أعلى درجات المعرفة أو إلى الحق نفسه، وعندئذ تتكوّن لديهم الفضيلة. وفي نهاية هذه المرحلة يعود هؤلاء إلى الحياة العامة يمارسون دور حراسة المجتمع من الآفات، ويوجهون مواطنيهم لكيفية الاستفادة من ثروات البلاد. وبعد أن يخدموا مجتمعهم خمسة عشر عاماً مقابل ما قدّمته الدولة لهم من تكاليف دراسة طوال خمسة عشر عاماً، ويصبحون في سن الخمسين، يُسمح لهم بترك الوظائف والتفرّغ لحياة عمادها الدراسة والتفكير، حيث تُعتبر هذه المرحلة هي حياة الخير الأسمى([2]).
وبعد هذا العرض للتربية في المدرسة المثالية الأفلوطونيَّة يمكننا أن نوجز أهمَّ سماتها وأبرزَ أسُسها. فالمثالية منذ سقراط وأفلاطون إلى الذين يمثلون في أيامنا المثالية المعاصرة، قامت على مبادئَ وأسسٍ، ومن أبرزها(2):
أ- أنَّ العقل أو الروح هما جوهر العالم، لأنهما أهمُّ ما في الإنسان. والحواس تَكْتَسِبُ إدراكاتها وفقاً لما يمليه عليها العقل.
ب- أنَّ المعرفة مستقلةٌ عن الخبرة الحسية. والأشياء لا معنى لها من غير العقل البشري، وكلما كانت المعرفةُ مجردةً عن الإدراكات الحسية، ارتقَت ورسخَت حتى تبلغَ درجة اليقين.
ج- أن الحقيقةَ مطلقةٌ وثابتة، أي أن ما يُدركه العقل أزَلي وغيرُ قابل للتغيير. بعكس ما تدركه الحواس لأنها – أي الحواس– عرضة للتغير والنسبيَّة.
د- أنَّ العالَم الماديَ ليس واقعاً مُطلقاً. أي أنَّ ما يُحيط بنا من ظواهرَ مادية، ما هي إلا ظلال لما نُدركه بعقولنا.
واستوقفتنا في التربية عند أفلاطون أمورٌ نوجزُها بالآتي:
1- جاءت التربيةُ -عنده- أهدافاً ووسائلَ فَرعاً مُنسجِماً مع هويته الفلسفيَّة المثالية فهو يريد من حكام مدينته الفاضلة أن يضعوا أيديهم على مواطني تلك المدينة مبكّراً غير آبهٍ بعواطف الأهل، وبقدراتهم وذلك من أجل (فَبْرَكة) مُواطن يتَّصف بالكمال البدني والرُّوحي.
2- إنَّ غياب المصدر الرباني في تربية أفلاطون يجعلها بعيدة عن حاجة الإنسان، فالموسيقى والرقص عنده عنصران من عناصر تربية الذوق والعقل. وأنا أسأل بأيِّ موسيقى شنَّف الصحابة آذانهم؟وبأي نوعٍ من الرقص تمايلت أجسادهم؟ وكيف صنعوا نموذجاً للبشرية سامياً رفيعاً؟
3- إن التوأمة بين الفرد والمجتمع في فلسفة أفلاطون التربوية من جهة، ومطلب الكمال الذي يشكّل العمود الفقري في فكره التربوي، أو قمة الهرم في مُثله العليا، من جهة أخرى، لا ينسجمان مع الواقع الميداني والعملي في نظامه التربوي، حيث قسم الناس إلى ثلاث طبقات، ولا يصل إلى الطبقة الأهم والأرفع إلا القليل جداً من المواطنين المثاليين. فكيف يحقق أصحاب الطبقتين الأخريين مثلهم الأعلى؟
4- التفت إلى حقيقة علمية وهي: أن القدرات العقلية والخصائص الجسمية تتشكّل في سن مبكرة ويجب العناية بهما معاً، وذلك لتأثّر العقل بحالة الجسم.
5- جمع بين المبدأين: النظري والعملي، وتجلّى هذا في كون الجانب النظري مرشداً للجانب العملي بدءاً من سن الطفولة في المعسكرات. وهذا ما تُنادي به التربية الحديثة، وما دعا إليه الإسلام وطبّقه الصحابة فكانوا لا يدَعون الآية حتى يعملوا بها.
6- تتقدم القيم الحربية وما يتصل بها على غيرها من القيم في النظام التربوي عنده. وذلك بتأثير أوضاع عصره وإمبراطورية اليونان وحاجتها إلى القوة العسكرية.
7- تعكس نظرته التربوية مكانة بلده الذي ينتمي إليه من حيث الموقع القيادي في تلك الحقبة. ولو كان أفلاطون أحد مواطني المحميات اليونانية لجاءت مفاهيمه التربوية مختلفة تماماً. وذلك نظراً لاختلاف الحاجات والاهتمامات بين الغالب والمغلوب، ولو كان المغلوب مولعاً بتقليد الغالب.
8- نلاحظ أن مرحلة الطفولة تمتدّ عنده حتى نهاية الثامنة عشرة، وهذا ما عليه التربية الغربية في أيامنا، أما في الإسلام فسنّ البلوغ هي الحد الفاصل بين الطفولة والمراحل اللاحقة لها. ولا نقع على تعليل لاختيار نهاية الثامنة عشرة لتكون بداية مرحلة عمريَّة جديدة. كما لم نعثر في كل ما قرأناه له على تحديد صفات تكون بمثابة محكّات مميِّزة للفصل بين مرحلة وأخرى. ولنا في هذه المسألة رأي يتعلَّق بتقسيم مراحل التعليم في لبنان وعلاقتها بالعمر الزمني للمتعلِّم، سنعرضه في موضعه.
9- إن هذا النوع من تقسيم الناس – ثلاث طبقات – وخاصة طبقة الفلاسفة الذين يُطلب إليهم الانعزال التام عن الناس مدة خمس سنوات. إنَّ هذا مِن شأنه أن يفتّ في عضد البناء الاجتماعي للدولة. فيأتي خرابها من حيث أُريدَ بناؤها. وهذا ما حصل فعلاً حيث طبقة الفلاسفة أخذت تحتقر كلاًّ من طبقتَي الجُند والصِّناعيّين وأدارت ظهرها لمطالب أبناء مجتمعها، وهي قيادته المسؤولة عنه. فأين هذا من تربية محمد صلى الله عليه وسلم الربّانية التي تجعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحمل على ظهره طعاماً لعجوز؟! ويبحث عن بعير من إبل الصدقة؟! وأين هذا من قوله تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُم﴾؟! [الحجرات: 49/13].
10- وعلى العموم، إن أفلاطون في فلسفته المثالية، توخّى التربية معياراً لصدقيّتها فأنتجت أُناساً يغرقون لآذانهم في الذاتية، في حياتهم التأمُّليَّة ونشاطهم العقلي واستمتاعهم بالجمال.
11- نَظَر إلى ما يُتوَصَّل إليه عن طريق العقل أنه ثابت لا يتغير. والوقائعُ تفيدُ عكس
ذلك فكم من نظريةٍ نُقِضَت، وكم من أمور كانت تُعتبَر حقائقَ عِلمِيَّةً ثم نَقَضها
العلمُ. وفي الحالتين كان حُكْم العقل هو الأساسي.
ب- التربية عند أرسطو (384 – 422 ق. م):
ورغم أنَّ أرسطو هذا تتلمَذ على أفلاطون لقرابة عقدين من الزمن، فإنه خالف أستاذه باتجاه مناقض، فأدار ظهره للمثالية، وجاء بفلسفة تناقضها، وهي الواقعية، والتي تعتبر من مبتدعاته. ورغم أن مذهبه الفلسفي الواقعي، لا يُسفر عن مبادئ وأبعاد تربوية لها دلالات محددة، إلا أنه يمكن للمتتبّع لنظرية المعرفة الخاصة بها أن يكتشف كلّ ذلك في علاقة هذه الفلسفة بدعائم الفكر التربوي وتطوره. فقول أرسطو بدور الحواس بتزويد العقل بالخبرات المكتسبة من الواقع، حيث لا يحمل الدماغ أي معلومات سابقة، بل يكتسب المعارف والخبرات و.. إلخ، من خلال تفاعل الإنسان بوساطة حواسه مع ما يحيط به، هو أساس هذه الفلسفة الواقعية التي ما زال يرتكز إليها الفكر التربوي حتى يومنا هذا([3]).
وقد خالف أرسطو أستاذه أيضاً في مسألة حل إشكالية التضارب بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة، وكذلك في تحديد مفهوم الخير الأسمى في الحياة، وبالتالي خالفه في تحديد الغرض من التربية. فبينما يذهب أفلاطون في هذا الحل إلى قوله بالحصول تدريجياً على الأفكار العامة، أو المثل التي تتصف بأنّ لها كياناً مستقلاًَ، والتي يرتبط إدارك الفضيلة في نفس الفرد بتحصيله إياها، يذهب أرسطو إلى أنه ليس للأفكار العامة وجود حقيقي مستقل، وأن الخير الأسمى لا يتحقق إلا بالجماعة، وحيث إنَّ الخير – عنده – وهو أسمى غاية، لا يتحقق إلا عن طريق النشاط العقلي فلزم أن تكون التربية عنده تربية عقلية للجميع وعن طريق التطبيق العملي.
ويقول الدكتور نبيه يس في معرض كلامه عن تطور الفكر التربوي([4]): "إن مناقشة نظرية القيم في فكر أرسطو، تكشف لنا عن تأثير عميقٍ لها في تطوير الفكر التربوي، فأرسطو يرى أن تحديد الظواهر ذات القيمة، إنما تعتمد على السلوك الأخلاقي للفرد، والذي يتم اكتسابه عن طريق تكيفه مع بيئته خلال معرفته بالقوانين الطبيعية التي تحكم الكون، والتي تشكّل السلوك الإنساني تبعاً لمستويات أخلاقية مطلقة، وتفترض فلسفته الواقعية هذه أن المبادئ الأولى للقانون الطبيعي معروفة لدى كل فرد عادي بواسطة عقله بمفرده".
ولما كانت القوانين ثابتة لا تتغير، كانت معارف الفرد حوله هي التي تتطوَّر وتتغيَّر، وذلك وفقاً لتواصله وتعامله مع هذه القوانين عن طريق الحواس وإعمال العقل. ولا بد والحال كذلك من توجيه جهود التربية والمربين إلى عقول الجماعة.
وقد بثّ أرسطو مُجمل مفاهيمه التربوية بشكل عرضي في كتابَيْه: (الأخلاق) و(السياسة). وقد اهتمَّ في الأول – وإن كان فيهما معاً ينطلق من خلفية([5]) سياسية – بالردّ على أسئلة من مِثل:
أ- ما السعادة؟ ويجيب بأنها "نشاط شعوريٌ للجزء الأسمى من الإنسان طبقاً لميزاته الخاصة به بصحبة ظروف خارجية ملائمة".
ب- ما قانون تفوّق الإنسان الذاتي؟ ويجيب: "بطبيعة الإنسان السياسية والاجتماعية".
- أما في كتابه (السياسة) فقد اهتمَّ بتوضيح العلاقة بين التربية والسياسة حيث يؤكد أنَّه: ليس هناك ما هو أعظم من استقرار الدساتير سوى ملاءمة التربية لشكل الحكومة.
ويوجّهُ نقده فيه للتربية في إسبارطة، حيث يرى أنه لما قصرت أمر تربيتها على الناحية الجسمية وأهملت الناحية العقلية وجب أن يُحكم ببطلانها.
ويطالب أرسطو في كتابه هذا أن تكون العناية بأخلاق الأطفال بأيدي الحكومة والآباء، لا بيد العبيد الأرقاء.
ويجب أن تهدف التربية البدنيَّة – عنده- إلى ضَبْط الشَّهوات وكبح جماح اللذات. ولا تقف عند حدود التفوّق في الألعاب الرياضية، وخشونة الجندية وفظاظتها. هذا على المستوى الجسدي، وكيف تفيد الأخلاق من الرياضة الجسدية. وهذه هي المرحلة الأولى والتي يرى فيها أن العقل يعرقل عمل الجسم، والجسم يعرقل عمل العقل، ولذلك لا بد من التربية للانسجام بينهما فهدف التربية في اثينا هو ايجاد التوازن بين الجسد والروح ومساعدة الفرد على تحقيق نموٍّ متكامل : جسميّ – وعقليّ – وروحيّ - وفنّيّ(1).
أما على صعيد التربية الخُلقية وهي المجال الثاني من مجالات التربية – عنده – وتأتي في المرحلة الثانية، فإنه يوكلها إلى الموسيقى والأدب عامة، والشعر خاصة، نظراً لأهميته في علم الجمال، والموسيقى – عنده – لها أكثر من غيرها من وسائل التعبير، تأثير بالإنسان عن طريق الحواس، ولها قدرة على تكوين الخُلُق وذلك بتطهير العقل من عناصر الشر وتقوية عناصر الخير فيه.
أما على صعيد التربية العقلية، وهي المرحلة التي تأتي بعد هاتين المرحلتين وخصّ بها التربية العالية، حيث تكون القدرات العقلية قد نضجت، فإنه لم يذكر شيئاً عن تفاصيل هذه المرحلة. ولا بد من لمّ شتاتها من ثنايا أقواله وتوجهاته. فقد كانت التربية في هذه المرحلة تضم قدراً كبيراً من علوم الرياضة لا سيما الهندسة، وكذلك علوم الطبيعة والتي هي عنده مصدر تزويد العقل بالخبرات، ثم الفلك وعلومه. وكذلك يمكن تبيان معالم هذه المرحلة من خلال ثقافته وسيرته هو، حيث كانت تشتمل على العلوم الطبيعية وما يلزمها بعد ذلك من الدراسات الفلسفية. وكان يعتمد في كل ذلك على طرائق خاصة، احتلت من بعده منبر طرائق التفكير من مثل: الطريقة الاستقرائية والطريقة القياسية في استنباط الأحكام والقواعد. وذلك بأسلوب حواري. هذا إلى جانب ضرب آخر من ضروب التربية عنده وهو التربية العملية الميدانية.
ونُشيرُ إلى أن أرسطو لم يُدخِل المرأة في عداد القادرين على خوض غمار هذه المرحلة مخالفاً بذلك أفلاطون. فهو يرى أنَّ المرأة مختلفة عن الرجل اختلافاً جوهريّاً في طبيعتها. ومن ثم لا تستطيع أن تستفيد من تلك التربية الراقية التي يستمتع بها الرجال. وبنى حججه على مراقبة ذاتية، تابع فيها الجنسين من الحيوانات الدنيا (2).
هذه أهم المفاهيم والمبادئ التربوية التي وقعنا عليها عند أرسطو وبالتالي يمكن أن نستخلص الآتي:
1- زاوَجَ أرسطو بين السياسة والتربية: فدراسة التربية عنده جزءٌ من دراسة السياسة. وإذا كان هدف السياسي المباشر هو إخراج المواطنين الصالحين، فإنه لا يمكنه ذلك إلا عن طريق التربية. فالمربي والسياسي يهدفان إلى غاية واحدة، لكن المربي هنا يكون في خدمة السياسي.
2- اعتبر أرسطو الطبيعة بما فيها من مواد، وقوانين تحكم العلائق بينها، مصدراً من مصادر تربية العقل، أو قل: الطبيعة هي المرجع لتربية أرسطو. وهذا من مسلمات أسس التفكير الإسلامي أو تشكّل العقل المسلم، وذلك عن طريق إعمال الحواس في كل ما حوله. وما أكثر الآيات التي تحض على إعمال السمع والبصر وغيرها من الحواس في أرجاء هذا الكون. وبينما يقف أرسطو عن حدود المادة في الكسب العلمي، نرى القرآن الكريم يصرِّح بالمصدر الرباني في قوله تعالى: ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُون ﴾ [البقرة: 2/151].
3- أولى أرسطو الجانب العملي الميداني عناية أكبر مما أولاه إياها أفلاطون. وهذا أكد عليه الإسلام وقد ذكرناه سابقاً. واللافت استعمال أرسطو مصطلح (الكفاية العملية)، ويقصد بها التفوق والامتياز في السلوك العملي أكثر من اعتباره إياها حالة من حالات العقل.
وهذا المصطلح تطالعنا به اليوم المناهج الجديدة في لبنان. ولكن حدوده ما زالت بلا شاطئ وكلٌّ يُلبِسُه الثوبَ الذي يريد. وهذه المسألة سوف نناقشها إن شاء الله تعالى عندما نعرض لمشكلات المناهج الجديدة.
4- تربية المرأة عند أرسطو تقف في نهاية المرحلة الثانية، ولا تتجاوزها للثالثة. حيث يتحقق الخير الأسمى عن طريق النشاط العقلي، والتي تشمل أرقى الفضائل. وبذلك ينتج عنها أسمى درجات السعادة. فالمرأة – عنده – إذاً خارج دائرة الخير الأسمى، وتدخل بالشقاء، ولا تدنو من السعادة. بينما نرى المرأة في الإسلام يمكنها أن تكون عميدة لكلية العلوم، أو كلية أصول الدين والشريعة... إلخ. ولو مُنِعت عنا الأحاديث التي روتها أمّنا عائشة([6]) رضي الله عنها وغيرها من الصحابيات(1) لكان في ديننا ثلمة عميقةٌ واسعة، لكن الله هو الذي تكفَّل بحفظ هذا الدين فهيأ له رجالاً ونساءً.
5- رغم ما قيل في مخالفة أرسطو لأفلاطون، فإننا نرى أن الكثير من المفاهيم التربوية ووسائط التربية، تصدر عن معين واحد عندهما. وتفتقر التربية عند أرسطو كما عند أفلاطون لمصدر رباني. مع الإشارة إلى أهمية أن تكون الطبيعة مصدراً عند أرسطو من مصادر التربية، ولكن ما العاصم من الضلال فيها؟! حيث لا بد من الرسل والعلم القطعي اليقيني في معرفة الحق المطلق. ذلك أن ما تُوصلُ إليه العقولُ عن طريق إعمال الحواس عرضةٌ للخطإِ من عدة جهات:
أ- إذا نقلت الحواس خطأً، فإن الدماغ يحلل ما يصل إليه، وبالتالي فحكمه مبني على مقدمات أو معلومات خطإٍ، فلا بد أن يأتي حكمه مشوباً بالخطإِ.
ب- عجز الحواس ومحدوديتها، فإذا كانت عاجزة في المجال المادي المحسوس فكيف في المجال الغيبي غير المحسوس؟؟
ج- تأثر عقل الإنسان بهواه وميوله.
د- تأثر عقل الإنسان بعوامل تشكّله منذ ولادته، وإلا لما اختلف إثنان في قضية علمية من العلوم التجريبية التي تشهد الكثير من الاختلاف، فكيف بالعلوم الإنسانية؟!
6- تشكّل البيئة الأثينية ومعطياتها من موقع قيادي، والاهتمام بالأدب عامة والشعر خاصة، والموسيقى – والطبقات الاجتماعية ... الخ أحد أهم مصادر التربية عند أرسطو ولم يستطع أن يتخلص من حضورها في أكثر مفاهيمه التربوية، حتى عندما انتقد التربية في ولاية إسبارطة. فإنه أراد أن يجمع لأثينا قوة العقل إلى جانب قوة الجسم، ليمكّن لها أكثر في دورها السياسي. ولم يتجاوز إلى رؤية تربوية إنسانية عامة. وإن كانت البشرية استفادت من طرائق التفكير عنده، والتي ضاعت لمدة مائتي سنة، حتى وجدت سبيلها إلى مكتبة الإسكندرية ثم إلى روما فيما بعد. وعرفت طريقها إلى العالم عن طريق ترجمتها إلى العربية والعناية بها في بغداد بالذات. وبعد أن نقلها المسلمون منها إلى إسبانيا، فلاقت شغفاً في أوروبا وخاصة في بداية عصر ظهور الجامعات(2) .
وفي الختام، يمكننا أن نجزم أن التربية الأثينية بعَلَميها أفلاطون وأرسطو،لم تكن تربية ذات بعد إنساني عام، وإنما كانت تنطلق من واقع أثينا ولخدمة الإنسان فيها، بل قل لخدمة أعلى طبقة اجتماعية فيها.
التربية عند الرومان في أبسط تعريف لها: "هي الإعداد للحياة العمليَّة" ونظراً لأن الروماني كان يحفل بالجانب العملي، وهو بذلك على عكس اليوناني الذي كان يحيا حياة التأمل الذاتي، وتذوق الجمال والنشاط العقلي، فطبيعي أن ينصرف إلى كلِّ ما ينفعه في حياته العملية، فكان في تقديره لقيم الأشياء قاسياً في وضع مقياس للسلوك. ومن كان ذا أسلوب عملي لا بد له من أمور:
أ- الوصول إلى نتائج ملموسة. وذلك لا يكون إلا في ضوء:
ب- تحديد الأهداف الرئيسة في الحياة، وهذه بدورها لا بد لها من:
ج- مبادئ أساسية ينطلق منها ويرسم أهدافه في ضوئها. وكل ما تقدّم يحتاج إلى وسائل معينة، ولا بد لهذه الوسائل أن تكون منسجمة متوافقة مع الغايات والأهداف.
فلم يرضَ الفكر التربوي الرّوماني أن تبقى المثل العليا بعيدة عن ملامس الأنامل، لذلك لجأ إلى البحث عن وسائل وشرائع تكفل له ذلك، فأخذوا عن الإغريق فكرة الحكومة المتحدة وأعملوا قدراتهم فيها، حتى صار لهم إمبراطورية عالمية. وكذلك طوروا فكرة القانون، حتى صاروا مرجعاً لكثير من الأمم الحديثة في هذا المجال. وعندما اعتنقوا الديانة المسيحية جعلوا منها ديانة عالمية.
ونقلوا من زراعتهم الناجحة أساليب تطويرية في المجال التربوي، حتى إنّ التربية لديهم كانت تعمل في حياتهم العقلية والروحية ما كانت تعمله الزراعة في حياتهم العملية.
ولمَّا كانت الواقعية ترى أنَّ للحقيقة وجوداً مستقلاً عن العقل العارف لها، وهم يسعون وراء المعرفة، ولكن ليس لأجل اكتشاف "المبادئ الأولية" أو "الكليات الثابتة"، بل لأجل فائدتها في توجيه الحياة([8]). كانوا يعتبرون التربية أداة لتخريج مُواطنٍ أقدر على التكيف الاجتماعي. وذلك وفق مثُل عليا تربوية رومانية مبنيَّة على الحقوق والواجبات، والتي كانت محصورة في خمسةٍ، حددها القانون تحديداً تاماً وهي:
1- حقّ الوالد على أولاده.
2- حقّ الزوج على زوجته.
3- حقّ السيد على عبيده.
4- حقّ الرجل الحر على من تعاقد معه وأخل بوعده.
5- حقّ الملكية.
وكانوا يُنيطون التربية على هذه الحقوق بـِ:
· البيت: خلافاً للتربية اليونانية التي قللت جداً من شأن البيت ودور الوالدين. وكان من المبادئ التربوية في روما تعظيم شأن المنزل ودور الوالدين التربوي وخاصة الأب، الذي كان طفله يلازمه بدلاً من أن يلازم عبداً خادماً في أثينا.
· سِيَرِ الأبطال: فلم تكن أبطال قصصهم من الخيال، بل كانت لأبطال حقيقيين من الرومان الأوائل، على عكس أبطال الأسطورة اليونانية الذين كانوا أنصاف آلهة، أو يقومون ببطولاتهم تحت رعاية الآلهة. فالطفل الروماني يُعرض عليه نموذج بشري مثله تماماً وبالتالي يمكن محاكاته وتقليده.
· التقليد: فالمربي الروماني هو الأب غالباً، أو مربٍ رومانيٌّ حر، ويشكل نموذجاً يُحتذى، ويسعى الناشئ لتقليده، بينما نرى أن ذلك كان معدوماً في التربية اليونانية، لأن المربي كان خادماً عبداً وينفر الطفل من تقليده.
إنَّ من أهم سِمات التربية الرومانية في عهودها الأخيرة، هي اعتمادُها مبدأَ التعليم الرسمي الحكومي، حيث صارت الحكومةُ تُشرفُ عليه، بل تحتكرُه. وذهبت إلى أكثرَ من ذلك حيث حرَّمت إنشاء مدارسَ خاصّة(1).
ولنا على التربية عند الرومانيين ملاحظات أهمها:
أ- أنَّ الجنوح إلى الجانب العَمَلي النفعي – وقد جاء كردة فعل على التربية المثالية في أثينا – يقلل من شأن الاحتفال بالحقائق العلمية البحتة والتي لا ينتج عنها نفع مباشر.
ب- لم تبرز المرأةُ "الأم" على الساحة التربوية لتحتلَّ دوراً رئيساً. وبالمقابل أُوكِلَ الدَّورُ الأكبر للأب. ولا ندري إن كان لهذا التوجّه (خلفية)([9]) ثقافية أو اعتقادية تنظر إلى المرأة نظرة دونية، أو تجعلها غير صالحة لممارسة دور رئيسٍ في تربية أبنائها، وقد يكون مرد ذلك إلى طبيعة المجتمع الروماني العسكري، حيث على كل رجل أن يكون جندياً. وطبيعي أن الأم لا يمكنها القيام بهذا الدور عملياً، وإن كان بإمكانها تزويد أبنائها بقيم وطنية أو قتالية عسكرية. علماً أن مركز المرأة في روما تلك الأيام كان الأفضل بين مراكزها لدى الشعوب الأخرى.
ج- تبرزُ مكانة الرجل في سُلّم الحقوق بشكل لافت، والسبب في ذلك قد يكون- لأنه الأب والمزارع والمحارب، والمربي، فعندما كثرت مهامه كثرت واجباته، فطبيعي أن تكثر حقوقه وفقاً لنظام (الواجبات والحقوق) الذي قامت عليه التربية الرومانية.
د- هناك انسجامٌ بين عناصر التربية الرومانية، لم تصل إلى مرتبته التربية اليونانية، ذلك أن المَثَلَ الأعلى الروماني كان ذا صبغة عملية، ويتمتع بقيمة حقيقية حيوية. فالرّجولة - وهي مِثالٌ أعلى عندهم- ماثلة بالنسبة للطفل ، في أبيه، الصالح لأن يكون نموذجاً يحتذيه.
هـ- أَوْكَلُوا أمرَ التربية الأساسيَّ للبيت والأسرة عامة وللوالدين خاصة. وهذا ينسجم مع واقع الحال، حيث يولد الطفل ويربى في أسرته، يسمع ويرى، يغتذي وينمو في كل ما حوله. وهذا يتفق مع النظرة الإسلامية التربوية لدور الأسرة مصداقاً لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً ً ... ﴾ [التحريم: 66/6] فالنجاة من النار هي الفوز: ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ... ﴾ [آل عمران: 3/185].
ويقول رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ…"([10]) ولكن هيهات هيهات بين دور هذه الأسرة وبين دور تلك. فالأسرة المسلمة تربي وفق منظومة عقدية لها مرجعية ومصدرها الحق تبارك وتعالى. بينما الأسرة الرومانية، والتربية الرومانية عامة، تحتكم إلى الواقع وإلى ما ينفع – بزعمهم – ولو كان نفعُهم ضرراً للآخرين.
و- ونلاحظ غياب التنظير السياسي التربوي عند الرومان. ونعلل ذلك بطغيان النظام الإمبراطوري العسكري من جهة، وباحتلال سُلّم الحقوق والواجبات الحيز الأهم من اهتمامات الروماني العمليِّة من جهة أخرى. وللتوازن المفترض حضوره بين الحقوق هذه وما يقابلها من واجبات، حيث تتحقق العدالة بتوازنهما، والعدالة هدف الدولة أساساً.
ز- استُبدلت بالتربية الموسيقية الأناشيدُ الوطنيّةُ التي تُمجّد الأبطال، وقراءةُ الأشعار الأسطورية التي تُخلّدُهم. وفي الإسلام نرى أنَّ الشعر ديوانَ العرب، ويوصي سيدنا عمر رضي الله عنه الآباءَ أن يُسمِعوا أولادهم عيونَ الشعر العربي (... وروُّوهم ما يجمُل من الشعر)([11]) ويرى مع ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ أشعار العرب تساعد- أو قل: لا بدّ منها- في فَهم خطاب الله عز وجل. فعمر رضي الله عنه يقول: (عليكم بديوانكم "أي شعر الجاهلية" فإن فيه تفسير كتابكم....)([12])
(إذا قرأتم شيئاً من كتاب الله فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب) ([14])فالشِّعر الجاهليُّ - كما ترى- ليس وسيلةً تربوية فحسب، بل كان لازماً من لوازم فهم خطاب الله عز وجل. ولكن بالطبع ليس شعرَ من يتبعهم الغاوون،﴿وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ﴾ ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ﴾ ﴿وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ ﴾ ﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: 26/224-225 – 226 -227].
ح- إنَّ اعتماد المركزيَّةَ التربويَّة وحصرَ أمر التعليم بالسُّلُطات السياسية يَحْرِمُ الشعبَ الكثير من قُدرات الآخرين، ويجعلُ التعليم نمطياً، وبالتالي تأتي شخصياتُ المواطنين كأنها مُسْتَنْسَخةٌ. فأين هذا من موقف الرسول صلى الله عليه وسلم. حيث يأمرنا بقوله: "بلِّغوا عني ولو آية"([15]) بل أين هذا من واقع حِلَقِ العِلم الكثيرة التي كانت تَحْفُل بها المساجد، يُمارس فيها العلماءُ - على اختلاف مذاهبهم - التدريسَ حِسْبَةً لله عزَّ وجل.
([1]) " الخلفية " وضعناها بين قوسين لأننا لم نجدها في المعجم وهي ترجمة لـ (Background) ويقال: خلفية ثقافيّة، ويقصد بها ما يرثه جيلٌ عن أجيال سابقة من أعراف وطرق تفكير سائدة، وقيم. ويتضمن ذلك فنونها وآدابها... إلخ. [ عن معجم المصطلحات التربوية. حنا الله، رمزي كامل؛ وصاحبه. ص: 128.] أو " خلفيّة " الجريمة بمعنى الدوافع التي تكمن وراء فعل المجرم. ويمكن أن نستبدل بها "العوامل الثقافيّة " أو " المؤثرات الثقافية " وبالعودة إلى لسان العرب مادة(خ – ل – ف) ج9/ص: 88. وجدنا من معاني هذا الجذر، استقى ويمكن أن تكون " الخلفيّة " بمعنى استقى من تلك المصادر الثقافية. إلا أننا – كما ذكرنا – لم نجدها في المعجم.
(3) أفلاطون، القوانين: ترجمه من اليونانية إلى الإنجليزية تيلور؛ وترجمه إلى العربية محمد حسن ظاظا: ص: 32.
(2) منرو، بول؛ المرجع في تاريخ التربية: ترجمه إلى العربية: صالح عبد العزيز وحامد عبد القادر: ج1/ ص: 142 وما بعدها.
(2) راجع، ريمون، الفرد؛ الحياة العامة اليونانية السياسية والاقتصادية في القرن الخامس: ص: 92 وما بعدها منرو، بول؛ المرجع في تاريخ التربية: ج1/ ص: 157 وما بعدها.
(1) روي للسيدة عائشة فحسب رضي الله عنها، الفان ومئتان وعشرة أحاديث اتفق البخاري ومسلم منها على 174. وانفرد البخاري منها بـ 54، وانفرد مسلم منها بـ 68: الزركشي، الإمام بدر الدين؛ الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة: ص:44.
(1) سنُجْمل القول في التربية عند الرومان لالتقاط خصائصها العامة دون الخوض في أدوارها، ويمكن للمستزيد أن يرجع إلى كتب تاريخ التربية من مثل: التربية عبر التاريخ للدكتور عبد الله، عبد الدائم: ص: 85 وما بعدها والتربية في المجتمعين اليوناني والروماني .لفتحية حسن سليمان:ص:92 وما بعدها والتربية في المجتمعين اليوناني والروماني. لفتحية حسن سليمان:ص:92 وما بعدها.
([13]) ابن عباس [3 ق هـ -68هـ = 619-687م] عبد الله بن عباس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، أبو العباس: حَبر الأمة، الصحابي الجليل. ولد بمكة ونشأ في بدء عصر النبوَّة، فلازم رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى عنه الأحاديث الصحيحة. وشهد مع علي الجمَل وصفِّين. وكُفّ بصره في آخر عمره، فسكن الطائف، وتوفي فيها. له في الصحيحين وغيرهما 1660 حديثاً. قال ابن مسعود: نِعم تُرجمان القرآن ابن عباس. وقال عمر بن دينار: ما رأيت مجلساً كان أجمع لكل خير من مجلس ابن عباس، الحلال والحرام والعربية والأنساب والشِّعر .. ولحسَّان بن ثابت شعر في وصفه وذِكر فضائله. (نقلاً عن الأعلام: للزِّرِكلي، خير الدين؛ ج4/ص: 95).
No comments:
Post a Comment