المبحث الأول: القيمة لغة:
جاء في الصِّحاح تحت باب (ق – و – م) قوله: والقيمة واحدة القيم، وأصله الواو. وقوّمت الشيء، فهو قويم، أي مستقيم ([1]). وجاء في المفردات للراغب الأصفهاني في تفسير قوله تعالى ﴿دِيناً قِيَماً﴾ [الأنعام: 6/161] أي ثابتاً مقوِّماً لأمور معاشهم ومعادهم([2]). وجاء في لسان العرب: والقيمة ثمن الشيء بالتقويم([3]).
ولمّا كنا نرى أنّ المفرداتِ في لغتنا العربية، تكتسب دلالاتٍ جديدة ً ويتغير معناها بتغير حاجات الإنسان وثقافته، كان حَرِيّاً بنا أن نسعى الى ملاحظة علاقة المعاني المكتسَبة للمفردة، بمعنى جذرها الأصلي, لأن الجذر لا بدَّ أن يظلَّ مزوِّداً مختلف المعاني التي قد تكتسبها المفردة. وكذلك يزِّود معاني المفردات المشتقة منه كلَّها ببعد المعنى الأساس الذي وُضع له أصلا ً. وستجد هذا ماثلا ً أمامك حين تلاحق مفردة ً من المفردات في تغيرها الدلاليِّ مثل (الصلاة – الزكاة – الكتابة) أو حين تلاحق مشتقاتِ جذر ٍ لغويٍّ معيَّن ٍ.
ولهذا سنعرض لبعض مشتقات الجذر (ق – و – م) عند الراغب الأصفهاني وفي لسان العرب، وذلك في ضوء المعنى الأساس لهذا الجذر.
قال الراغب في باب قوم([4]): والقيام على أضرب، قيامٌ بالشخص إمّا بتسخير وإما اختيار. وقيامٌ للشيء, وهو المراعاة للشيء والحفظ له. وقيامٌ على العزم على الشيء. وقوله تعالى ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الرعد: 13/33] أي حافظ ٌ لها. وقوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماًً﴾ [آل عمران: 3/75]، أي ثابتا ً على طلبه، وقوله تعالى: ﴿ويُقِيمُونَ الصَّلاَةَ﴾ [البقرة: 2/3] أي يُديمون فعلها ويحافظون عليها. وفسّر قوله عزَّ وجلَّ، ﴿الحيُّ القيومُ﴾ [البقرة: 2/255] بقوله تعالى ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [طه: 20/50].
ويقول ابن منظور: "ق – و – م"، القيام نقيض الجلوس، قام يقوم، قوماً وقياما ً وقومةًً وقامةًً. والاستقامة، الاعتدال. وقال: القيم، الاستقامة. وإذا انقاد الشيءُ واستمرَّتْ طريقتُه فقد استقام.
ويقال: قام قائم الظهيرة، وقام ميزان النهار، فهو قائم، أي اعتدل. والقائم بالدين، المتمسّك به، والثابت عليه. وكلُّ من ثبت على شيء وتمسّك به فهو قائمٌ عليه. وقال تعالى: ﴿لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ﴾ [آل عمران: 3/113] أي متمسكة بدينها.
وقال تعالى ﴿... لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً﴾ [آل عمران: 3/75] أي مواظباً ملازماً. وقوله تعالى: ﴿عذابٌ مُقِيمٌ﴾ [الشورى: 42/45] أي دائم. ومن هنا قيل للخليفة: هو القائم بالأمر. وفلان لا يقوم بهذا الأمر أي لا يطيق عليه دواماً. وكل شيء فوق سطح هو قامة، وجمعها قيم. وقوله تعالى ﴿فيها كتبٌ قَيِّمَةٌ﴾ [البينة 98/3] أي مستقيمة تبين الحق من الباطل، على استواء وبرهان ﴿وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 98/5] أي دين الأمة القيمة بالحق. والملة القيمة أي المعتدلة وقوله تعالى: ﴿دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنعام: 6/161]، أي دينا ً مستقيما ً. وقوله تعالى: ﴿إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [الكهف: 18/14] أي عزموا فقالوا.
وقال: قد يجيء القيام بمعنى المحافظة والإصلاح، ومنه قوله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء﴾ [النساء: 4/34] وقال: ويجيء القيام بمعنى الوقوف والثبات([5]).
فهم ضربوكم حين جرتـم عن الهـدى بأسيـافهـم حتى استقمــتم على القِيَمْ
فنشهد أنك عند المليــــــ | |
والقيُّوم هو الله تعالى، ومن أسمائه الحسنى، أي القائم بتدبير أمر خلقه. والقِوَام من العيش ما يقوم بحاجتك الضرورية([10]).
ومن هذا كله، نجد أنَّ من لوازم هذه المفردة (قيمة) معانيَ يُعد بعضُها أساسا ً فيها، ويشكل بعضها الآخر ظلالا ً لها. ولا يستقيم المعنى في الذهن ولا يستقرُّ إلا بها جميعًا . ومن هذه المعاني:
1. الاستقامة.
2. الانقياد.
3. الثبات والاستمرار والمواظبة والملازمة.
4. التمسّك.
5. الظهور والإعلان.
6. التفريق بين الحق والباطل بالبرهان.
7. الإصلاح.
8. الحاجة الضرورية وما يلزم الشيء للقيام به.
9. العزم والتصميم.
10. إصدارُ حكم ٍ في تقدير شيء أو تبيان قدره أو ثمنه.
وهذه المعاني والمفاهيم كلُّـها تتحوّل لدى الإنسان إلى سلوك إرادي يصدر عنه بوعي ٍ وتصميم ٍ. ويؤيد الذي نذهب إليه ما أورده الراغب الأصفهاني في تبيان معنى " أقام" حيث قال: "وإقامة الشيء توفية ُ حقـِّه. وقال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ﴾ [المائدة: 5/68] أي توفون حقوقهما بالعلم والعمل. وقال: ولم يأمر الله تعالى بالصلاة حيث أمر، ولا مدح حيثما مدح إلا بلفظ الإقامة تنبيها ً أنّ المقصود منها توفية شرائطها، لا الإِتيان بهيئاتها، نحو قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [الروم: 30/31] ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ﴾ [النساء: 4/162] في غيرِموضعٍٍ من القرآن الكريم([11]).
وإننا لنرى أن الراغب الأصفهاني ما كان له أن يتوصل إلى هذا المعنى الدقيق والفهم العملي التطبيقي إلا بما استقر في ذهنه من أصول معاني الجذر (ق – و– م) وظلالها التي لا بدَّ أن تـُلحظ َ في أنماط ٍ سلوكية ٍ إنسانية ٍ يختارها الإنسان بعد العزم والتصميم، ثم يعلن عنها ويجاهر بها، ثم يتمسك بها، ويثبت عليها.
وسنحاول أن نرى مدى حضور هذه المعاني في مفهوم القيمة من حيث هي اصطلاح. وسنعمد إلى البحث عنها في العناصر المكوِّنة لها. أو قل في العناصر التي تتداخل وتتفاعل في عملية تمسُّك الإنسان بقيمةٍٍ من القيم.
المبحث الثاني: القيمة اصطلاحاًً:
جرت العادة لدى الكثيرين من الباحثين المحدثين في عالمنا الإسلامي، عند دراستهم مصطلحاً أو مفهوماًً ما، أن يُيمِّموا وجوههم قِبَلَ مباحث المستشرقين، أو علماءَ في هذا العلم أو ذاك الفن من الغربيين.ولعله يدهشك أن ترى باحثين كبارا ً – وخاصة في مجال العلوم الإنسانية – من أوزان الدكتور حسن إبراهيم حسن، والأستاذ أحمد الشايب، وشوقي ضيف وأمثالهم، لا يستطيعون إلا أن يعرِّجوا في بحوثهم ودراساتهم التاريخية والأدبية في مثل دراسة مفهوم لفظة (أدب)([12]) على (كارلو نلِّينو)([13]) المستشرق الإيطالي، أو على (نولدكة)([14]) في دراسة لفظة (عرب)([15]) ومدلولها. وفي هذا السياق يقول الدكتور محمد محمود الدش في معرض كلامه عن المنهج والقيم وأثر علماء الغرب الوضعيين والعمليين في ذلك: "إننا اعتدنا الميل على أن نحذوَ حذوهم، ونقتبس نتائجهم. كما يلاحقنا هذا الميل منذ عشرات السنين، بل من مشارف القرن الماضي في الأخذ بكلِّ ما وصلوا إليه وتحكّموا به في ظواهر الطبيعة وحياة الإنسان من علم الاقتصاد والتكنولوجيا والتربية..)([16]).
ومع شيوع هذه الظاهرة وخاصة ً في بداية العقد الثاني من القرن الماضي ومع تصاعد نتائج البحوث العلمية النظرية والتجريبية في أوروبا خاصة ً والغرب عامة ً، حيث كان طلبُ الدراسات العليا لغالبية أبناء أمتنا من ذلك الجيل عالة ً على جامعات الغرب ومعاهده وعلى مناهج البحث والتفكير فيها، قد صار مألوفاً أن ترى الباحثين يعتمدون على تلك الجامعات، وعلى نتائج أبحاث أساتذتها، وعلى مناهج البحث عندهم، بل يعدون هذه المناهج وتلك النتائج من المسلَّمات المعرفية، ولا حاجة لديهم لإعمال النقد فيها، أو النظر إليها من جوانب أخرى، في ضوء اختلاف المعطيات وفق ما يقرُّ به العلم الحديث، "الذي أصبح لا يزعم عموما ً ولا ضرورة ً، وأصبح يقوم على الاحتمالات، وينظر للقوانين العلمية على أنها ليست الغايةََ النهائيةََ من العلم، وليست بالضرورة دائمةً أزلية ً ثابتة ً، بل تتغير هذه القوانين بتغير الظروف والشروط , وهي بالتالي تصويرٌ للعلاقات المتبادلة بين الظواهر، هذه الظواهر المتغيرة بحسب الظروف والأحوال"([17]).
فإذا كان هذا موقف العلم الحديث من القوانين العلمية التي يتوصل إليها عن طريق التجربة والاختبار، فكيف يجب أن ننظرَ إلى نتائج بحوث العلوم الإنسانية؟ ولماذا يتعامل الكثيرون من الباحثين المسلمين مع هذه النتائج على أنها قوانينُ علميةٌ نهائيةٌ؟؟
وبحوث القيم لا تكاد تخرج عن هذا المسار. وهي من البحوث التي حظيت في الغرب بمزيدٍٍ من الدراسات، وذلك لارتباط القيم بعقيدة الإنسان ومفاهيمه التي من شأنها أن توجِّه سلوكه وميوله، خاصة ً إزاء التغيراتِ المتسارعةِ في كلِّ ما يتصل بحياتهم، هذه التغيرات المستجدة والهائلة وغير المنضبطة، في الأفكار والمفاهيم الجديدة والمخترعات الحديثة، وخاصة ً في مجال الاتصالات ومستلزماته حيث صار العالم قرية ً كونية ً. إن هذا التغيرَ صار مقوما ً مهما ً من مقومات الحياة، وأصبح عاملُ التغيرِ هو السمة التي تطبع جميع نواحي حياة الإنسان عامة ً , فكيف بالإنسان عندهم؟!
فتحت وطأة هذه التغيرات، اضطر علماؤهم إلى توجيه عنايتهم لدراسة " القيم"، فأدلى علماءُ كلِّ فنٍّ واختصاص ٍ بدلوهم. وصاروا ينظرون إليها من منظار اختصاصهم، فيعمِّمون جزئيَّة ً يرونها فيها ثم يطلقونها معرِّفين فيها القيمة. أضف إلى ذلك، خضوع َ الكثيرِ من معطيات البحوث العلمية وتسخيرها لخدمة أغراضهم السياسية التي صارت محكومة ً بالنزوع إلى التسلط والقهر وسلب قدرات الشعوب. وكذلك نراهم يعمدون إلى ليِّ عنق مناهج البحوث، أو الانحراف بتفسير الظواهر، لتأتي بالنتائج التي أرادوها مسبقاً([18]). وكل ذلك يأتي في إطار فرض أنماط عيش استهلاكية على الشعوب المستضعفة([19]) مستخدمين في ذلك كل ما أوتوا من قدرات علمية واقتصادية وإعلامية. ففي سبيل تسويق سلعة يجنون منها الأرباح الطائلة , تراهم يخططون ليخترقوا منظومة القيم الخاصة بالشعب الذي يتوجهون إليه ليستهلكَ هذه السلعة.
ونتيجة ً لكل ما تقدم، فقد تعددت تعريفاتُ القيمة ،وتضارب مفهومُها حتى ضجَّ بهذا التضارب والاضطراب علماءُ الغرب أنفسُهم وتبرموا منه. فهذا " فون مرنج " يقول " هناك في ميزان البحوث في القيم على وجه الخصوص جدبٌ في النظريات المتناسقة وخصوبةٌ في النظريات المتضاربة"([20]). أما أحد علماء الاجتماع فإنه يشبه القيم بالطفل غير السعيد فهو يصِف القيم بأنها: "الطفل غير السعيد الذي يعاني من بؤسٍٍ وشقاءٍٍ لعدم عِلْمِنا به"([21]).
ورغم هذه الحقيقة, نرى أنَّ الذين تصدَّروا لدراسة مفهوم القيمة من الباحثين العرب، ظلوا عالة ً على ما توصل إليه علماء الغرب، فشرَّقوا حيث شرّقوا وغرّبوا حيث غرّبوا، وتبنَّوا – إلا القليل منهم – مفهوم القيمة الصادر عن الباحثين الغربيين.
ونحن لا ننكر أن يتلمس الباحثُ كلَّ ما يتصل ببحثه لدى الآخرين فـ"الكلمةُ الحكمةُ ضالَّة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحقُّ بها"([22]). ولكن موضوع القيمة من وجهة النظر الإسلامية, يكاد يكون موضوع الإنسان بكل أبعاده. ولا نأمن الشطط أو الزلل في بحثنا عن مفهوم القيمة إلا اذا حددنا بدقة مفهوم إنسانية الانسان.
إن بحوث القيمة عند فلاسفة الغربيين وباحثيهم لم تخضع لمنهج عام ٍ متفق ٍ عليه بينهم، وهم لم يحددوا – فيما بينهم – أصلا ً ميدان هذا البحث. وظلَّ موضوعُها – أي القيمة – رماديا ً ضبابيا ً, وعرضة لتجاذب الاختصاصات (فلسفة – تربية – علم اجتماع – علم نفس – اقتصاد...إلخ). "ويدور البحث في الغرب هذه الأيام عن المنهج الذي يمكن أن يكونَ له دورُ البطولة أو دورُ الفارس ِ الذي يستطيع أن يقدم هذه الهدية – مجموعة جديدة من القيم – فوق مسرح الحياة "([23]). ولو أنهم حددوا ميدانَ البحث ومفاصلـَه الأساسية, وناطوا كلَّ مفصل بالعلم المتصل به، ثم شكَّلوا فريقَ عملٍ للبحث يضمُّ علماءَ في هذه العلوم، وتدارسوا منهجية العمل والأساليب المتَّبعة، وناقشوا ما يتوصل إليه كلٌّ منهم، في تواصلٍٍ تقتضيه وحدة ُ إنسانية الإنسان، لرأينا أنَّ كثيرا ً من هذا الاضطراب الذي يشكون منه استحال إلى انسجام. وجاءت النتائجُ أكثرَ موضوعية ً ودقة ً وصوابا ً. أو على الأقل, يمكن أن تشكِّل أساسا ً صالحا ً يصحُّ الاستناد إليه، والاستمرار فيه في ضوء كثير ٍ من المعطيات المستجدَّة ِ، ولكنَّ الواقعَ يثبت أن بحوث القيمة قد تناولها العلماء متفرقين، كلٌّ حسب اختصاصه ونظرته، وحسب وسائل ِ البحث المتوافرة لديه.
ومع أنَّ الأمرَ الأولَ – تشكيل فريق عمل – قد فاتهم، فهم حتى الآن لم يتسنَّ لهم أن يجمعوا شتات أبحاثهم, ليتدارسوها ويوظفوا ما يتوصلون إليه في ضوء نظرتهم للإنسان ومفهومهم له.
لذلك نرى أنَّ السببَ الحقيقيَّ في اختلافهم حول مفهوم القيم، هو أن القضية َ إنسانيةٌ بحتة ٌ،وليس لديهم مرجع ٌ أو حكم ٌ متفقون عليه، في ما يتعلق بمفهوم الإنسان. بل تراهم يستندون في ذلك إلى ثقافتهم وحضارتهم وتجربتهم وعلمهم، ومن غير أن تنقطع تطلعاتهم وميولهم وأهواؤهم عن كل ما يستندون إليه، ليستمر كلُّ ذلك مؤثرا ً في نتائج بحوثهم، فضـلا عن تأثره بوسائل بحوثهم وأساليبها أصلا ً , وخاصةً عند علماء الاجتماع والنفس والسياسة. ويكفي دليلا ً على أثر ميول العالم أو الباحث, هذا الجهدُ الذي يبذله الفيلسوفُ والعالم الألماني (ماكس شيلر)([24]) الذي نبغ في حقلـَيْ علم النفس الاجتماعي، وعلم الأخلاق، وما أورده (دنكن ميتشل) الذي عَرَّفَ بهذا العالم في معجم علم الاجتماع، حيث يقول: "جاءت جميع كتاباته تدور حول إمكانية إيجاد قاعدة ٍ للقيم الموضوعية، في عصر ٍ سيطرت عليه القيم والأفكار النسبية والذاتية المتحيزة التي تعبر دائما ً عن أهواء الكاتب ونزعاته, ولا تعبر عن الحقيقة والواقع"([25]). وهل تقود نزعات الباحث وأهواؤه - في غياب العقل والنقل - إلا إلى الضلال؟!
ولقد شنَّ القرآن الكريم حملة ً قوامها عشرات الآيات , في الكشف عن مخاطر اتباع الهوى، وكيف أنَّ هوى النفس على الصعيدين الفردي والجماعي واجه الإيمانَ والحقيقة َ وصدَّ عنهما. والناظر إلى هذه الآيات يرى كيف يؤازر بعضها بعضا ً في تبيين أمور منها:
- أولا ً : علاقة هوى النفس، بالاستكبار الذي يؤدي بالجماعة المدعوة إلى رفض الرسول ورسالته. ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ﴾ [البقرة: 2/87].
- ثانياًً: تأكيد حتمية ضلال كلِّ من يتبع هواه ويُدْبر عن هدى الله ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ﴾ [النجم: 53/23]
﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ﴾ [القصص: 28/50]
﴿ولاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً﴾ [المائدة: 5/77] وكأنَّ هذه الآية توقفنا على صفة من صفات أصحاب الهوى ألا وهي أنهم يدعون لضلالتهم فيضلّون غيرهم معهم.
وفي الحديث الشريف ما يؤكِّد معنى هذه الآيات الكريمة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه سلم قال: "اثنان خير من واحد وثلاثة خير من اثنين وأربعة خير من ثلاثة، فعليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة ولم يجمع الله عزَّ وجلَّ أمتي إلا على هدى، واعلموا أن كلَّ شاطن هوى في النار"([26]). وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: " إن الله لا يجمع أمتي – أو قال أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار"([27]).
- ثالثا ً: ثم يطلب الله عز وجل في هذه الآيات من الرسول المرسَل إلى قوم من الأقوام أن لا يتبعَ أهواءهم ﴿قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ [الأنعام 6/56] ﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾ [الكهف 18/28].
- رابعاً: هي تهدي إلى أنَّ الصراط المستقيم والفوز العظيم مرتبطان بالخوف من مقام الله عزَّ وجل، ونهي النفس عن الهوى ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾ ﴿ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات 79/40-41].
- خامساً: ترسم هذه الآيات صورة ً هي غاية ٌ في الترهيب والتهويل، وذلك ليَستقرَّ في أذهاننا خطورة ُ الأهواء، وليس على أصحابها فحسب، بل على من يحيط بهم ويعيش معهم، وعلى كل عناصر بيئتهم الاجتماعية والمادية ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ﴾ [المؤمنون: 23/71] وإننا لنرى أن توحيد الربوبية يقتضي نفي الهوى، وكذلك كل معاني التوحيد ومستلزماته. ومن أجل ذلك، تطلب الآيات القرآنية من الرسول صلى الله عليه وسلم، أن يدعوَ ويستقيمَ كما أُمر، على صراط العزيز الحميد. ﴿فلذلك فادع ﴾ ﴿ واستقمْ كما أ ُمرتَ ولا تتبعْ أهواءهم﴾ [الشورى: 42/15].
والسؤال المطروح هو، هل هناك منهج غير المنهج الإسلامي يمكن أن يكون بمعزل عن تأثيرات الهوى وتجاذبه؟! ولطالما أن القضية منوطة بالإنسان في نشأته، وغاية وجوده ومآله، وفي عناصره وفطرته ودوافعه المتآلفة، والمتجانسة والمتكاملة، فليس هناك إلا القرآن الكريم والسنَّة المطهرة يمكنهما قطعاً أن يزودانا بما نحتاج إلى معرفته حول إنسانية الإنسان.
إذاً يمكننا أن نجزم أن المنهج الإسلامي هو المرتكز الأساس في بحث القيمة، وفيما يتصل بها من بحوث، بل قل: في كل البحوث المتصلة بإنسانية الإنسان. حيث لا يطغى في هذا المنهج جانب إنساني على جانب آخر، بل تنسجم العناصر المادية والروحية والعقلية والنفسية في هذا الكل المتكامل مع العناصر الكونية المسخرة له، والتي تسهم مع المحيط الاجتماعي والمادي في رسم شخصية الإنسان، هذه الشخصية التي لا يمكن الاستغناء عن ريشة القيم في رسمها.
لذلك لا يمكننا أن نبحث القيم في منأى عن فهمنا لإنسانية الإنسان ومن ثم لغايته في الحياة.
وإذا أدركنا أنّ الإنسان كائن اجتماعي، وأن هناك حيِّزا ً ليس بالقليل لفرديته، كان لزاما ً علينا أن نأخذ بالحسبان – ونحن نبحث القيم عنده – مجمل نشاطاته الإنسانية على المستويين الفردي والجماعي في محاولتنا لفهمه. فما مفهوم إنسانية الإنسان؟ وما غايته؟ وما مفهوم الحياة عند المسلم؟([28])
([7]) كعب بن زهير( ... – 26هـ = ... - 645 م )ابن الشاعر الجاهلي زُهير بن أبي سُلمى، من الشعراء المُخضرمين، شاعر عالي الطبقة من أهل نجد، هجا الرسول صلى الله عليه وسلم فأهدر دمه، فجاءه كعب مستأمناً وأنشده اللامية المعروفة ((بانت سعاد)) فعفا عنه عليه الصلاة والسلام وخلع عليه بردته. (نقلاً عن الأعلام للزركلي، خير الدين؛ ج 5 /ص: 226).
(1) هو حسَّان بن ثابت بن المنذر الخزرجي الأنصاري، أبو الوليد، الصحابي، شاعر النبي صلى الله عليه وسلم. أدرك الجاهلية والإسلام فعاش ستين سنة في الجاهلية ومثلها في الإسلام. اشتهرت مدائحه في الغسانيين وملوك الحيرة قبل الإسلام. لم يشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم مشهداً لعلَّة أصابته. كان شديد الهجاء فحل الشعر، توفي في المدينة. (نقلاً عن الأعلام للزرِكلي، خير الدين؛ ج2/ص: 175).
([14]) هو ثيودور نولدكة, من كبار المستشرقين الألمان (1836 – 1930م ) أتقن العديد من اللغات الشرقية وعلى رأسها العربية إلى جانب الفرنسية والإنكليزية وغيرها , متخصص بدراسة التاريخ الإسلامي والآداب العربية – وله في الألمانية – حياة محمد– تاريخ القرآن _ ترجمة المعلقات , وله في العربية , منتخبات الأشعار العربية. (نقلاً عن منجد اللغة والأعلام: ص: 580).
([22]) سنن الترمذي (محمد بن عيسى بن سَوْرة)؛ كتاب: العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة، ورقمه(19 )، ورقم الحديث 2687، ج5/ ص: (51 ), وقال أبو عيسى الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ص: 758 عن أبي هريرة رضي الله عنه ويؤيده ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه: في كتاب العلم ورقمه(2)، باب:الاغتباط في العلم والحكمة ورقمه(16) ورقم الحديث: (73)، ص: 31.( ورجلٌ آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها).
No comments:
Post a Comment