Monday, December 19, 2011

الفصل الأول القيمة : مفهومها وتطور دلالاتها في : الاقتصاد – الفلسفة - الاجتماع (تابع)


المبحث الثالث: الإنسان لغةً:
    الإنس, البَشَر، والواحد إنْسي وأَنَسِيٌّ أيضاً بالتحريك. والجمع أناسي وإن شئت جعلته إنساناً ثم جمعته على أناسي، فتكون الياء عوضاً من النون. وقال تعالى ﴿وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً [الفرقان: 25/49] والإنسان أصله إنْسيانٌ، لأنّ العرب قالوا في تصغيره: أُنيْسيانٌ فدلّت الياء الأخيرةُ على الياء في تكبيره، ثم حذفت لكثرة ورودها في كلام الناس. ويقال للمرأة: إنسان ولا يقال: إنسانة – والأناس لغة في الناس وهو الأصل فخفف. وقال الشاعر: [من مجزوء الكامل] ([1])
إن المنايا يطّلعـ



نَ على الأناس الآمنينا

  


 واستعرضت كتاب الله عزَّ وجل، وعدت إلى المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم فلم أقع على مفردة ((الأناس)). فعدت إلى كتاب الأشباه والنظائر للسيوطي فوجدته قال([2]): "قال ابن يَعيش: الناس أصله أناس حذفوا الهمزة وصارت الألف واللام في الناس عوضاً منها. فلذلك لا يجتمعان.فلا يقال: الأناس. وأما قول الشاعر: إنَّ المنايا … فمردودٌ لا يُعرَف قائله"([3]).
    واستأنست بفلان، وتأنست به، بمعنى واحد. والأنس: المؤانس، وكل ما يؤنس به. وما بالدار أنيس، أي واحدٌ.
فكأن الإنسان من الأنس، وهذا دليل على حاجة الإنسان لغيره فهو بذلك كائن اجتماعي. وقيل: سميّ إنساناً لأنسه بحواء، وقيل لأنسه بربه([4]).

وقال الكُمَيْت([5]): [من البحر الكامل]
فيهن آنسةُ الحديث حييَّةٌ                 

ليست بفاحشة ولا مِتْفالِ([6])
وقال آخر: [من البحر الطويل]
إذا غاب عنها بعلها لم أكن لها

زؤوراً ولم تأنس إليَّ كلابها
وآنسته: أبصرته ويقال: آنست منه رشداًً، أي علمته،  وآنست الصوت سمعته. فكأن إنسانية الإنسان عمادها السمع والبصر اللذان هما أساس كسبه العلمي.
والإيناس،  خلاف الإيحاش.
والأَ نَس، بالتحريك: الحي المقيمون والجماعة من الناس.
وأنِس به، بالكسر، أنَسَاً، وأَنسةً، خلاف الوحشة.
وفيه لغة أخرى:  أنست به أنساً، على مثال، كفرت به كفرا ً([7]).
والإنسان اسم جنس للذكر والأنثى، والإنسانية صفة للإنسان وتستخدم في العربية للمحامد ولمدح الشخص، فيقال: فلان إنسانيٌّ وتلك امرأة تطفح إنسانيةً.
    ووقعنا في كتاب الحيوان للدَّميري [1341م-1405م]على استخدام كلمة (إنسانة)([8]).
 وأثبت للعباس  بن الأحنف([9]): [من مجزوء الرجز]
إنســـانةٌ فتـــــــانةٌ         بدرُ الدُّجـــى منها خجِل
وقد اختلف النحاة في لفظ الناس فمنهم من قال: هو اسم من أسماء الجموع: جمع: إنسان وإنسانة على غير اللفظ. وتصغيره:نويس، من النوّس، أي الحركة، فيقال: ناس، ينوس،أي تحرك.
    وبالنظر إلى معاني الجذر (أ  _ ن _ س) نجد من لوازمه أمورا ً تضيء معنى (الأنس) ومنها:
    -     السكينة والاطمئنان، والقرب القلق والوحشة والبعد. ﴿لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور: 24/27]،  ﴿فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ [الأحزاب: 33/53].
         -            الإبصار والرؤية ﴿إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ [طه: 20/10].
         -            العلم والمعرفة ﴿فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء: 4/6].
    ولو راجعنا مادة (ش – ط – ن)([10])، وجدنا الكثير من المعاني التي تخالف ما جاء في مادة (أ – ن – س) من مثل: البعد – الالتواء والاعوجاج – المخالفة – العتو والتمرُّد – الجهل والمعصية،فهما طرفا نقيض. ولقد بيّن القرآن الكريم أن الشيطان للإنسان عدو: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ [الأعراف: 7/22] ﴿ وإِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [يوسف: 12/5] ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ [الحج: 22/3] فكأنما الإنسان الذي يجادل بغير علم ٍ يتصف بصفات الشيطان. ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً [مريم: 19/44] ومن أجل ذلك أمَرنا الله عزَّ وجلَّ أن نتخذ الشيطان عدوا ً. ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً [فاطر: 35/6].
    وهناك آخرون يرون أن الإنسان مشتق من النسيان وأنشد أبو تمام([11]): [من البحر الكامل]
لا تنسينَّ تلك العهودَ فإنما

سُمِّيت إنساناً لأنك ناسي([12])
وقول أحد الشعراء:[ من البحر الطويل ]
وما سُمِّيَ الإنسان إلا لنسيه

ولا القلب إلا أنه يتقلّب
وقال آخر: من[ البحر البسيط]


فإن نسيت عهوداً فيك سالفةً

فاغفر فأول ناسٍ أول الناسِ([13])
إلا أننا لم نجد لذلك أصلاً في لسان العرب أو في الصحاح.
المبحث الرابع: مفهوم الإنسان:
    لقد كشف القرآن الكريم عن حقيقة الإنسان بوضوح. والذي يستقري([14]) القرآن الكريم باحثاً عن مفهوم الإنسان، يجد أن الآيات في كثير من السور قد بينت كل ما يتعلق بالإنسان، بدءا ً من خلقه وحياته إلى مماته وآخرته([15]). وسنعرض بشكل موجز ما يسهم في توضيح مفهوم الإنسان مما ورد في القرآن الكريم:
أ- خَلْقُه: قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر: 15/28 وَ 29] وقال تعالى: ﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاًً [الكهف: 18/37] وتبين الآيات المتتالية 12-13-14 من سورة (المؤمنون) حقيقة خلق الإنسان بصورة متكاملة تردُّ على الكثير من أوهام الماديين وغيرهم فيقول الحق تبارك وتعالى ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ﴾﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ﴾﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون: 23/12-13-14].
ب- نظام تكاثره: قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء ً [النساء: 4/1] وبيَّن كيفية التكاثر بشكل أوضح ﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ [السجدة: 32/8] ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ [الزمر:39/6] ﴿أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى﴾﴿ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى﴾﴿فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى [القيامة: 75/37-38-39].



ج-  عناصر تكوينه([16]):
    ولدى النظر الفاحص لواقع الإنسان – ظاهرا ً وباطنا ً – نجد أنه يتكون من عناصر، بعضها مرئي محسوس، وبعضها مدرَك معلوم، وبعضها الآخر يُدرَك وجوده من خلال أثره. فما  هذه العناصر إذا ً؟

1- الجسـد: وهو البدن المحسوس بأجهزته المختلفة المعروفة والمتفق عليها عند علماء الطب والتشريح،  مثل الهيكل العظمي والجهاز العضلي والجهاز البولي والجهاز العصبي.. إلخ – وهذا الجسد بأجهزته المختلفة يتكوّن من عناصر ترابية ﴿أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً [الكهف: 18/37].

2- الروح: وهي السر الذي لم يُطْلِعِ اللهُ عليه أحدا ً من خلقه .قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء: 17/85].  وجاء ذلك ردا ً على طائفة من اليهود كما ورد في الصحيحين([17])، وأثبت ذلك النيسابوري في أسباب النزول([18]). فالروح سر الحياة في الإنسان والحيوان وليس المادة التي خُلق منها آدم عليه السلام،  كما يقول الماديون. هناك من المسلمين من يرى أن الحمأ المسنون هو سر حياة الإنسان،  ولو استطاع أن يكتشف هذه المادة فإنَّه سيصل إلى السر المكنون([19]) بزعمه، هذا السر الذي شغل بال الفلاسفة والعلماء على اختلافهم فلم يتركوا بابا ً إلا وقرعوه ولا وسيلة إلا واستخدموها لكنهم عادوا من حيث بدأوا.
    وإذا كنا لا نستطيع الرد على سؤال يطلب ماهية الروح لأن الروح وأمرها خارج دائرتنا نحن البشر، فذلك لا يعني أن نغمض أعيننا عمّا يمكن معرفته وملاحظته بالحس والمشاهدة ،عنيتُ مظهر الحياة في الإنسان فتقول: هذا الإنسان على قيد الحياة. فإذا ما انعدمتْ فيه مظاهر الحياة هذه، حكمنا يقينا ً أنه قد انتقل إلى عالم الآخرة.

3- النَّفْس: بالعودة إلى المعاجم العربية وجدنا أن النفس لها معان ٍكثيرة ومنها: الروح، والروع،  وما يكون به التمييز، والعزة، والعظمة، والعين، والدم، والأخ، وعنده، والغيب،  وقال ابن الأنباري([20]):  الروح هو الذي به الحياة  والنفس هي التي بها العقل.  فإذا نام النائم قبض الله نفسه ولم يقبض روحه ولا يقبض الروح إلا عند الموت. وسُمِّيت النفس نفسا ً لتولُّد النَّفَس منها واتّصاله بها([21]). ولمّا كان للنفس كلُّ هذه المعاني فإن من الطبيعي أن تكون من الأسماء المشتركة بين معانٍ اصطلاحية عدة. وكذلك من الطبيعي أن يختلف العلماء والمفسِّرون في تحديد جوهر ذاتها. إلا أنهم لا يختلفون فيما تتركه من أثر في سلوك الإنسان وتصرفاته،  وكذلك لا يختلفون في أن النفس الإنسانية- من حيث النوع – واحدة  وأن ما يختلف فيه الناس هو نفسياتهم المكتسبة،  أي أن ما فطره الله تعالى في بني آدم واحدٌ عند الخلق. والعلماء والمفسرون أيضا ً متفقون على أن البدن هو وعاء هذه النفس.

    إذاً أصبح من المسَّلم به أن كلَّ فرد من سلالة آدم عليه السلام بحاجة إلى إشباع حاجاته الجسدية كما أنه بحاجة إلى إشباع غرائزه النفسية. ومن الحاجات العضوية:  التنفس والشراب والطعام أو الغذاء والحركة والنشاط وكذلك الحاجة إلى النوم،  وإفراز الفضلات الزائدة وطرحها. ونشأ عن هذه الحاجات " الإدراك الشعوري" المطالب بالإشباع الضروري.

    وغرائز الإنسان النفسية الأصلية لا تتعدى ثلاثاًً وفقاًً لما يحتاج إليه كيان النفس الغريزية من علاقات أساسية ثلاث وهي:
     1.            علاقة الإنسان بنفسه وتحققها (غريزة البقاء).
     2.            علاقة الإنسان بغيره وتمثلها (غريزة النوع).
     3.            علاقة الإنسان بهذا الكون وبخالقه وتلبيها (غريزة التدين).

والإنسان في عملية إشباع حاجاته العضوية أو غرائزه النفسية، لا بدَّ له من ضابط وموجِّه. ففي الحاجات العضوية نأتي الحلال ونبتعد عن الحرام، ونتقي الشبهات في الأحوال العادية. أما في حال الضرورة فإنه يباح لنا أكل لحم الميتة وحتى لحم ِ الإنسان حفاظا ً على البقاء. وفي إشباع الغرائز، وجَّهنا القرآن الكريم والرسول الأمين صلى الله عليه وسلم،إلى سلوك الطريق الأصلح والعمل الأقوم الذي يضمن لنا إشباع هذه الغرائز إشباعا" إنسانيا ً متوازنا ً ، فيه خيرنا أفرادا ً ومجتمعاتٍ. وإلا كان الانحراف في طلب الإشباع، ومسار هذا الانحراف فيه مهلكة الإنسان والإنسانية.

4- العقل([22]): بالعودة إلى مادة (ع – ق – ل) في لسان العرب وغيره من المعاجم القديمة، وجدنا أن الأصل الدلالي لهذا الجذر هو: الرَّبط والحصنُ والتثبّتُ والحبس ويقال: عقل فلان المسألة أي ربط بين أجزائها، وحلَّها وفهمها. وفلان مَعقِلٌ لقومه: أي ملجأ آمِن لهم لحكمته، وصواب رأيه. والعاقل:  الذي يحبس نفسه ويردُّها عن هواها.
    والعقل: الحجر، والنهى ضد الحمق وجمعه عقول. وله دلالات عدة منها: القلب، والفؤاد، والحِلْم  والدية.... إلخ.
وقالوا: سمي العقل عقلا ً لأنه يعقل صاحبه " أي يربطه ويحبسه" عن التورط في المهالك. ورجلٌ عاقلٌ, وهو الجامع لأمره ورأيه.

ومما يستوقف الباحث في مادة (ع – ق – ل) أن المصدر من عقل يعقل: عقلا ً ومعقولا ً. وكان سيبويه يقول: إن المصدر لا يكون على وزن مفعول البتة. وعندما سئل قال:  هو صفة. وتأوَّل المعقول، فقال: كأنه عُقِلَ له شيء, أي حبس عليه عقله وأُيّدَ وشُدِّدَ. وأنا أرى أن هناك تلازما ً بين دلالتي المصدر واسم المفعول في هذه المادة (ع – ق – ل)،  فكأن ما يعقله الإنسان هو العقل بذاته.

وكذلك إن كلمة (العقل) هي مصدر للفعل (عقل) والمعلوم أن المصدر لفظ يدل على حدث مجرد عن الزمان والمكان أي هو اسم لا وجود لذات له في الواقع تقع تحت دائرة أي حاسة من الحواس الخمس. ولا كيان له يعرف به، إنما يظهر أثره من خلال العناصر المكوِّنة لهذه العمليّة أو لهذا الحدث. ولكي نرى أثره لا بد أن تتم عملية العقل (التفكير). وبالتالي لا بدّ من توافر العناصر المكونة لهذه العملية. وهي:
1. الواقع       : الذي لا بدَّ من وجوده ليكون موضوعاً  للتفكير.
2. الحواس     : التي لا بدَّ منها لنقل هذا الواقع إلى الإنسان عبر واحدة منها أو أكثر.
3. الدماغ      : الذي يستقبل المعلومات: ألوان + أشكال،  روائح... إلخ عبر الحواس.
4. المعلومات السابقة:  لا بدَّ من معلومات سابقة مخزونة في الدماغ لتفسير هذا الواقع وإصدار حكمٍ ما حوله.

    وهذه العناصر الأربعة متوازية ٌ من حيث أهمية ُ وجودها. ذلك أنَّ الدماغ والذي يبدو للوهلة الأولى أنه الأهم،  يفقد قيمته ولا يتمكَّن من العمل أو القيام بأيِّ دور ٍ في حال فقدان أي عنصر من العناصر الأخرى([23]):
    وبعد أن بيّنا عناصر الإنسان، لا بدَّ من الإشارة إلى أن مادة الإنسان في القرآن الكريم غير مادة البشر، حيث تعني مادة البشرية، الآدمية المادية التي تأكل الطعام وتمشي في الأسواق وهو ما يلتقي عليه بنو آدم. أما مادة الإنسانية فإنها لا تعني مجرد َ بشر يأكل ويشرب أو ينتمي إلى الإنس ، وإنما فيها ارتقاء ٌ إلى الدرجة التي تؤهل الإنسان للخلافة في الأرض([24]).

وبعد أن وقفنا على مفهوم الإنسان لغة, ومصطلحاً وعناصر, في التصور الإسلامي رأينا هشاشة مفهوم الإنسان والحياة في التصوُّر الماديِّ.   حيث  يرى علماء الطبيعة أنه ظهر ومنذ ملايين السنين وبعد مرور مراحل من تطور حيوانات وحيدة الخلية. وكذلك يرون أن مادة الكون كلِّـه   خُلقتْ من عدم وما زالت تُخلق من عدم بطريقة غير معروفة. وهذا يؤكد أن علماء الطبيعة يجهلون تماماًً ماهية الإنسان نظراًً لجهلهم طريقة َ خَلـْقِهِ. وذلك خلافاًً لِما جاءنا به الرسولُ الأمين صلى الله عليه وسلم في كتاب يُتلى إلى يوم الدين كما بيّناه سابقاًً.

    ولمّا كان جهلهم بعملية خلقه وبعناصره التي ترفل بها جنباته مؤديا ً إلى جهل التصرف والتعامل معه، فقد ركّزوا على الجانب الماديّ المحسوس في الإنسان. فكان اهتمامهم بالمأكل والمشرب وغير ذلك من الملذّات الماديّة البحتة، غير آبهين بعناصره الأخرى. ذلك أنهم يعتبرون أن المادة أساس الوجود وينبوع الحقائق.  ولكنّهم عندما يتحدثون عن الحياة عامةً وعن حياة الإنسان خاصة ً يعترفون بعجزهم عن إدراك سر الحياة يقول إنجلز([25]): "إن العلم لم ينجح بعد في إنتاج الكائنات العضوية دون تناسل من كائنات أخرى،  وفي الحقيقة إنه لم ينجح بعد في إنتاج الهيولى البسيطة أو الأجسام الآجنية الأخرى من العناصر الكيماوية. وبالتالي فإنه ليس في مكنة العلم الطبيعي حتى الوقت الراهن أن يؤكد شيئا ًبخصوص أصل الحياة"([26])

    ويكفي رداًً على جميع مذاهب المادية ومدارسها المعاصرة مثل الرأسمالية والاشتراكية والعلمانية الملحدة والبراـماتية والوجودية... إلخ، ما ورد في نتائج المؤتمر الذي عُقد في نيويورك بين ستة من كبار علماء الحياة في كلّ من الشرق والغرب عام 1959. وكان المجتمعون يأملون التوصل إلى فهم شيء عن أصل الحياة ونشأتها على كوكبنا الأرض. هذا من ناحية،  ومن ناحية أخرى كانوا يتطلعون إلى معرفة مدى إمكان إيجاد ظواهر حياتية عن طريق التفاعل الكيميائي.  ولقد انتهى المؤتمرون في نهاية بحوثهم بالإجماع  "أن أمر الحياة لا يزال مجهولاً".  وليس هذا فحسب. ولكن الأهم هو في قولهم:  "إنه لا مطمع في أن يصل العلم يوماًً ما إلى سرِّ الحياة، وأن هذا السرَّ أبعد من أن يكون مجرد بناء مواد عضوية معينة وظواهر طبيعية وكيميائية خاصة"([27]). وكأنَّ  كلامهم جاء صفعة ً لقول إنجلز "ليس في مكنة العلم الطبيعي حتى الوقت الراهن أن يؤكد شيئا ً  بخصوص أصل الحياة . فالحياة في التصور المادي غاية ٌ في الاضطراب والتشوش، ولا تصمد أمام التفكير السليم، فضلا ً عن عدم صمودها أمام المعطيات العلمية التي يتمتعون بقسط ٍ وافر ٍ منها. أما في التصور الإسلامي، فإننا نسلِّم في الأمور الغيبية إلى عالم الغيب والشهادة ، ونلتزم بما جاء في القرآن الكريم والسنة الصحيحة، ذلك أن ميدان العلم الطبيعي هو المشاهَد المحسوس، وما يبحثون عنه هو غيب لا يمكن للمجاهر والمباضع وكل التقنيات أن تباشره. ويزداد الأمر تشويشا ً عندهم إذا بحثوا في أمر ما بعد الحياة. فإذا كانت بحوثهم عن أصل الأحياء الذين يرفلون بالحياة حولهم لم تفلح ْ،  فكيف ستؤتي أيّ أُكُلٍ في عالم غير مشهود؟



المبحث الخامس: مفهوم الحياة في الإسلام:
    أما الحياة عامة ً في العقيدة الإسلامية فليست المعدود من أيام وسنين منذ ولادة الفرد حتى مماته، والمصطلح عليه بـ (العمر) وكذلك ليست عمرَ أمَّـةٍ أو عمر البشريّة جمعاء على وجه الأرض. إنما الحياة في العقيدة الإسلامية كما ورد في القرآن الكريم نوعان أو قسمان([28]):


1. الحياة الدنيا: وهي بالنسبة للجنس البشري والأحياء من غيره غير محددة، وتمتد إلى ما شاء الله تعالى لها أن تمتد. ولا يعرف نهايتها إلا هو، سبحانه وتعالى:  ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [الأعراف: 7/187]. 
وهي فيما يتعلق بالإنسان فردا ً، لها ابتداءٌ بولادته. وانتهاء، ويكون بوفاته،  ولمّا كان الموت خلقا ً من خلْق الله عزوجل: ﴿الذي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك: 67/2] كان لزاماً ألا نعتبر الموت نهاية الحياة إنما هو نهاية مرحلة،  هي مرحلة العمل والابتلاء، وخطا ً فاصلا ً بين حياة مؤقتة فانية وحياة مستمرة خالدة.


2. الحياة الآخرة: وهي الفترة التي تبدأ بعد الموت وفيها مراحل متعاقبة: 
أ) المرحلة الأولى:   الحياة البرزخية ﴿وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون: 23/100].
ب) المرحلة الثانية:  هي مرحلة اضطراب النظام الكوني وما يحدث فيه. ومن ذلك تسيير الجبال:  ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف: 18/47] ونسفها:  ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً [طه:20/105].  تشقق السماء: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً [الفرقان: 25/25].  مورها وتغير لونها: ﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً ً [الطور: 52/9]  ﴿فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ً [الرحمن55/37]  وطمس النجوم:  ﴿فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ً [المرسلات: 77/8].  وتكور الشمس:  ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ً [التكوير: 81/1] وتفجر البحار:  ﴿.. وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ً [الإنفطار: 82/3].
ج) المرحلة الثالثة: هي مرحلة البعث والإحياء بعد الحياة البرزخية والموت. وهي ما أسماه القرآن الكريم (النشأة الآخرة) أو (الخلق الجديد). ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ [يس: 36/51].  ﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ [الزمر: 39/68]  ﴿قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس: 36/52].  ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس: 36/78 – 79].

د) المرحلة الرابعة: وهي مرحلة الحشر، حيث يُعرض الخلق على ربهم وتظهرأعمالهم وتوزن. وورد في شأن هذه المرحلة آيات ٌ كثيرة ٌ [الكهف: 18/48/49] [القارعة: 101/5/6/7] [الأنبياء: 21/47].

هـ) المرحلة الخامسة:  وهي مرحلة الجزاء ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار: 82/13-14]. ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ﴿أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة: 56/10-11].
﴿فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾﴿ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ ﴿وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ﴿فَسَلامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ﴿وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ ﴾﴿ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ﴾﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ [الواقعة: 56/88-89-90-91-92-93-94-95].  ونلاحظ أن الجزاء مبني على أمرين معا ً هما الثواب والعقاب.  مما يشكل حافزا ً ورادعاًً، ترغيباًً وترهيباًً بشكلٍٍ متوازنٍٍ يضمن لمن يُعْمِلُ عقله الابتعادعن الزلل والشطط.  فالله عزَّ وجلَّ غفور رحيم، وكذلك هو شديد العقاب﴿ولا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف: 18/49].  فإذا طمع الإنسان بالمغفرة واستأنس بها  وأصابته غفلة ووقع في المعاصي يتمثل له العقاب فيرتدع  ويعود إلى رحاب الطاعة ﴿نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأنّ عذابي هو العذاب الأليم [سورة الحجر:15/49-50] .  فإذا كان غارقا ً في المعاصي  تمثلت له رحمة الله لقوله تعالى:﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر: 39/53].

المبحث السادس: غاية الإنسان المسلم في هذا الوجود:
وبعد أن بيَّنا مفهوم الإنسان ومفهوم الحياة في الإسلام لا بد أن نتوقف متسائلين ما غاية الإنسان في هذا الوجود؟ وما السبل لتحقيق غايته؟
إن غاية َ الإنسان مرتبطة ٌ بخلقه، وخالقـُه عزَّ وجلَّ حدد له تلك الغاية وذلك في قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 51/56] ولا تتحقق العبودية لله عز وجل إلا بعد إفراده بها ونفي الشرك به ظاهرِه وباطنِه([29]).
والعبد لغة([30]): هو الإنسان حرا ً كان أو رقيقا ً ذلك أنه مربوبٌ لباريه. ويقول سيبويه: والعبدُ المملوك خلاف الحر. هو في الأصل صفة ولكنه استعمل استعمال الأسماء. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقولَّن أحدكم لمملوكه عبدي وأَمَتي، وليقلْ فتاي وفتاتي"([31]).  فإن المستحق لذلك هو الله تعالى.

والعابد: الموحِّد،  وأصل العبودية: الخضوع والتذلل مع الاختيار، وتلبية دعوة الله عزَّ وجلَّ لقوله تعالى ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات51/56] أي ما خلقتُهم إلا لأدعوَهم إلى عبادتي وأنا مريدٌ للعبادة منهم.  وقد عَلِمَ الله ُ قبل أن يخلقَهم من يعبده ممن يكفر به.
ولو كان خَلَقَهم ليجبرهم على العبادة لكانوا كلهم عبادا ً مؤمنين.
إذا ً فالعبادة:  خضوع وتذلل وطاعة لله تعالى في كل ما شرع، وذلك عن طريق الاختيار القائم على استعمال العقل والتفكُّر والتدبر. أي إن العبادة تنطلق أساساً  معتمدة على العقل الذي يقبل أصول الاعتقاد في الألوهية والنبوّات والغيبيات([32])، وكذلك كل ما يتعلـّق بالجوارح، بحركتها وسكونها، خاضع لما يحصِّله الإنسان من قوة الإيمان أو ضعفه، فكل شؤون المعاملات، وكلّ ما يصدر عن الإنسان من سلوك، حتى ما يتعلق بالقلب- والقلب ليس من الجوارح- مرتبط بعقيدته وإيمانه، ولكنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال:  (المرء مع من أحب)([33]). وقوله عليه الصلاة والسلام: (التقوى ها هنا)([34]). وهكذا، فالبيع والشراء وكلُّ شؤون المعاملات ينطلق المسلم فيها مما يعتقد حِلاً أو حراماً أو مباحاًً, أي في كل ما تحويه إِنسانيته من أمور عقلية ونفسية و جسديَّة.. محكومٌ بما توصَّل إليه عقله بالطرق السليمة – من اعتقاد. 
وبالتالي فإنّ الإنسان المسلم يسعى لتحقيق غاية الله عز وجل من خلقه, كونه خليفته في الأرض.
 والاستخلاف تكليف الله سبحانه وتعالى الإنسان من باب التكريم بتولي إجراء أحكام الله في شؤون الحياة وإعمارها بالحق والعدل طاعة ً له عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 2/30]  ونفي كلِّ طاعة لمخلوق فيها معصية لله، فلا طاعة َ لحزب ٍ ولا لقومية ولا قبيلة أو قانون فيه مخالفةً  لطاعة الله ومعصيةٌ لأوامره عزَّ وجلَّ([35]).  وبالتالي فإنّ غاية المسلم في الحياة الدنيا هي طاعة ُ خالقه في الدنيا وطلبُ رضوانه في الدنيا والآخرة. 
    والآن، وبعد أن وقفنا على مفهومَي ِ الإنسان، والحياة في الإسلام،  أصبح بالإمكان أن نخوضَ في مفهوم القيمة. وذلك نظرا ً لأن القيمة حسب المفاهيم السائدة مرتبطة ٌ بكلٍّ من الإنسان من جهة، وبما يحيط به من جهة ثانية. فهي تحدِّد شكلَ الاستجابات، وبالتالي تؤدّي دورا ً مهمّاًً في تشكيل الشخصيّة الفرديّة([36]). "والقيم تتغلغل في حياة الناس أفرادا ً وجماعاتٍ، وترتبط عندهم بمعنى الحياة ذاتها، سلوكا ً وآمالا ً وأهدافاًً"([37]) "والقيم تكون حاضرة ً عندما يتناول الناس في أحاديثهم مشكلةً من المشكلات العامة ذات الطابع القومي أو الدولي"([38]).


المبحث السابع: مفهوم القيمة في علم الاقتصاد:
إنّ لكلمة قيمة في علم الاقتصاد معنيين([39])
- الأول: صلاحية شيء لإشباع حاجة. وهذا ما يطلق عليه (قيمة المنفعة).
- الثاني: قيمة المبادلة،  أي ما يساويه متاعٌ حين يستبدل به غيره: "الثمن".

وللتفريق بين " قيمة المنفعة" و" قيمة المبادلة"، جعلوا تقدير الشخص بالذات لمتاع ٍ ما أو سلعة ٍما أساسا ًفي قيمة المنفعة. وعلى هذا،  فإن قيمة َ المنفعة هي مفهوم ٌ فرديٌّ اعتباريٌّ.
وجعلوا الجماعة بتقديرها لقيمةِ سلعةٍ  ما أو متاع ٍ ما مرجعا ً للقيمة التبادلية، ولذلك اعتبروا أنّ القيمة التبادليّة هي مفهومٌ جماعيٌّ موضوعيٌّ([40]).

    ويرى رجال الاقتصاد أنه سواء أقلنا "القيمة" أم "الثَمَن" فإنَّ قولنا يبقى مجرد تعبيرٍ عن علاقةٍ بين أشياءَ مطروحةٍ في السوق للمبادلة. ولا يعني ذلك أن مفهوم القيمة – مصطلحاًً  اقتصادياً  – قابلٌ للجمع أو الطرح. فلا يقال مثلا ً:   إنَّ المصنع الفلاني زادت قيمته ، إذا ازداد إنتاجه. ولقد استخدم العالِم الاقتصادي الإنكليزي آدم سميث [1729م-1790م] مصطلح "القيمة" في كتابه "بحث في طبيعة ثروة الأمم وعللها "بالمعنيَين السابقَين، لكنّه سمّى "قيمة المنفعة" "قيمة الاستعمال" وأبقى على استخدام مصطلح "القيمة التبادلية"([41]). ويقول أحد الباحثين:  إنّ قيمة الشيء أو السلعة في علم الاقتصاد مرادفة لعصره،  سواء نظرنا إلى هذا العصر من ناحية الإنتاج،  أو من ناحية مقدار العمل الذي بذله العامل في إنتاج السلعة أو من ناحية العلاقة بين العرض والطلب، أو من ناحية فائدة الشيء أو السلعة للإنسان في حياته المعيشيَّة، فتحديدُنا لقيمة الشيء أو سعره يكوِّن لدينا معيارا ً أو ميزانا ً نقيس به هذه القيمة، لأنه لا قيمةَ للسِّلعة في ذاتها بل في تبادلنا إيَّاها مع شخص آخر([42]).
    وما أودُّ أن أشيرَ إليه هو أنّ علم الاقتصاد في أسسه وفي تتبعه لحركة سلعة ما ولكلِّ ما يتعلَّق بها من مادة وجهد وسعر وعوامل، سوف ينطلق من فلسفة يتبناها العالم الاقتصادي.
    ومن الضرورة أنْ نفرِّق بين "علم الاقتصاد" و "المذهب الاقتصادي"، فالمذهب الاقتصادي يعني الطريقة والأسلوب، فيما يعني علم الاقتصاد دراسة القوانين الاقتصادية وتحليلها. وبعبارة أخرى، إنّ المذهب الاقتصادي هو كلُّ قانون ودستور في الحياة الاقتصادية يستند إلى العدالة الاجتماعية.  أما علم الاقتصاد فهو الذي يدرس القوانين الاقتصادية بالمقاييس العلميّة والماديّة، دون أدنى علاقة بمسألة العدالة وغيرها من المسائل المشابهة([43]).                         
فالطريقة أو الطرائق التي يفضِّل مجتمعٌ ما اتباعَها في حلّ مشكلاته الاقتصادية العملية هو: المذهب أو النظام الاقتصادي.  وتفسير الحياة الاقتصادية وأحداثها وظواهرها   وربط تلك الأحداث والظواهر بالأسباب العامة التي تتحكَّم فيها والعمل على تحسين الإنتاج وتكثيره هو:  علم الاقتصاد.
    وعلى هذا الأساس لا يمكن أن نتصوّرَ مجتمعا ً إنسانيا ً دون مذهب اقتصادي يختاره ويتفق عليه. ولا بدّ أنّ هذا الاختيار لطريقة تنظِّم حياتهم الاقتصادية لم يتمَّ اعتباطا ً، ولم يأتِ من فراغ،  إنما جاء على أساس أفكارٍ ومفاهيمَ،  ذات طابع أخلاقي أو علمي أو أي طابع آخر([44]).  
    لذلك نرى أنه عندما نقوم بدراسة أي مذهب اقتصادي، يجب أن لا نُغْفِل الأفكار والمفاهيم التي يرتبط المذهبُ بها. وكذلك عندما نُصدر حكما ً على مسألة أو قضية من قضايا علم الاقتصاد، ينبغي ألا نجرِّدَها عن الفلسفة القائمة خلف عقول أصحاب هذا العلم والمغذِّيَة له، وألا ننظرَ إليه على أنّه علم من العلوم التجريبية المخبرية. وإلا لماذا هذا الاختلاف إلى حدّ التناقض في الكثير من قضايا علوم الاقتصاديين الماركسيين أو الاشتراكيين من جهة والرأسماليين من جهة أخرى.؟!
    وبالتالي وتبعا لكل ما تقدَّمَ،  فإننا نجد أنّ مبحثَ القيمة ومفهومها _ سواء في المذاهب الاقتصادية أو في علم الاقتصاد_ مختلفٌ فيهما إلى حدّ التعارض أو التناقض. فقيمة السلعة عند عالم الاقتصاد الماركسي هو الجهد المضاف إليها([45]). أما عند الاقتصادي البراماتي النفعي فإن قيمة الشيء هي بمقدار ما تجره إليه من نفع، بغض النظر عن إمكانية أن يكونَ في نفعه ضررٌ للآخر. حيث تحترم في الفرد سعيد الحظ أنانيته، فتضمن له حرية الاستغلال والتملك والاستهلاك، مستهترة ً بما سوف يصيب الآخرين من حيف وظلم نتيجةَ تلك الحرية([46]).









([1]) ابن منظور ، محمد بن مكرم؛  لسان العرب: مادة ( أ- ن- س )ج6 / ص: 10 وما بعدها.
([2])السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر؛ الأشباه والنظائر في النحو: ج1/ ص: 133.
([3])القرطبي، محمد بن أحمد؛الجامع لأحكام القرآن:ج1/ص:135.
([4])الكُمَيت بن زيد الأسدي أبو المستهل[60هـ -126هـ = 680م-744]: شاعر الهاشميين من أهل الكوفة. اشتهر في العصر الأموي. وكان عالماً بآداب العرب ولغاتها وأخبارها  وأنسابها، ثقة في علمه، منحازاً إلى بني هاشم، كثير المدح لهم، متعصّباً للمضرية على القحطانية. وهو من أهم أصحاب الملحمات .. ويقال: إنَّ شِعره أكثر من خمسة آلاف بيت. قال أبو عبيدة: لو لم يكن لبني أسد منقبة غير الكميت لكفاهم. وقال أبو عارمة الضبي: لولا شعر الكميت لم يكن للغة ترجمان. (نقلاً عن الأعلام، للزِّرِكلي، خير الدين؛ ج5/ص: 233.
([5]) هو أبو البقاء،[1161 م – 1254م] [عن منجد الاعلام: ص: 16] نحوي حلبي، موصلي الأصل له شرح المفصل للزمخشري وشرح التعريف الملوكي.
([6]) مِتفال: المرأة إذا تركت التطيب، من تفِل الشيءُ إذا تغيرت رائحته. (راجع مادة، ( ت- ف – ل) في اللسان، ج11/ص: 77).
([7]) راجع مادة ،(أ – ن – س ) الزمخشري، محمد بن عمر جار الله؛  أساس البلاغة: ص: 22. والجوهري، إسماعيل بن حماد؛ الصحاح: ج3/ ص: 906. ابن منظور، محمد بن مكرم؛ لسان العرب: ج 6/  (من ص:10 إلى ص: 16).
([8]) الدميري، حياة الحيوان: ج2/ص: 328 . وراجع الألوسي، أبو الفضل شهاب الدين السيد محمود؛ روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسَّبع المثاني: ج1/ص: 145.
([9]) العباس بن الأحنف بن الأسود الحنفي، أبو الفضل[… - 92هـ = … - 808م]: شاعر غزل رقيق، قال فيه البحتري: أغزل الناس. نشأ في ببغداد، وتوفي فيها، وقيل بالبصرة. خالف الشعراء في طريقتهم فلم يمدح ولم يهجُ، بل كان شعره كله غزلاً وتشبيباً. (نقلاً عن الزّرِكلي، خير الدين؛ الأعلام: ج3/ص: 259).
([10]) ابن منظور، محمد بن مكرم؛ لسان العرب:مادة، ( ش – ط – ن) ص: 13 و ص: 238.
([11]) أبو تمام [188هـ - 231هـ = 804م-476م]: هو حبيب بن أوس بن الحارث الطائي، أحد  أمراء البيان. ولد في جاسم (من قرى حوران بسورية) ورحل إلى مصر، واستقدمه المعتصم إلى بغداد، فأجازه وقدمه على شعراء وقته فأقام في العراق. وتوفي في الموصل. كان أسمر طويلاً، فصيحاً، حلو الكلام، فيه تمتمة يسيرة. واختلف في التفضيل بينه وبين المتنبّي والبحتري. له تصانيف منها "ديوان الحماسة". (نقلاً عن: الزِّرِكلي، خير الدين؛ الأعلام: ج2/ص: 165).
([12]) أبو تمام، حبيب بن أوس الطائي؛ الديوان: ص: 113.
([13]) القرطبي، محمد بن أحمد؛ الجامع لأحكام القرآن:ج1/ص:135.
([14]) شاع خطئاً استخدام- استقرأ، بمعنى تتبَّع، لأنّه من الفعل قرأ، بزيادة ( ا – س – ت) والتي من معاني زيادتها: الطلب. فاستقرأ، أي طلب القراءة. بينما التتبع من ( قرا ) وقرا المر واقتراه واستقراه إذا تتبّعه. [راجع مادة ( ق – ر – ا) في اللسان: ج15 / ص:175].
([15]) الترابي، حسن؛ الإيمان وأثره في حياة الإنسان: ص: 23.
([16]) راجع: معروف ، نايف؛ الإنسان والعقل :ص: 149 وما بعدها.
(2) والحديث عن عبد الله قال: بينما أنا أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في خَرِبِ المدنية وهو يتوكَّأُ عل عسيب معه، فمرَّ بنَفرٍ من اليهود فقال بعضهم لبعض: سلُوه عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه لا يجيءُ فيه بشيء تكرونه. فقال بعضهم: لنسألنَّه، فقام رجلٌ منهم فقال: يا أبا القاسم: ما الروح؟ فسكت، فقلتُ: إنه يوحَى إليه فقُمت، فلمَّا انجلى عنه قال:  (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) [الإسراء: 17/85]. (رواه البخاري، محمد بن إسماعيل؛ الصحيح: كتاب: العلم ورقمه(3)، باب: قول الله تعالى (وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) ورقمه(48)، ورقم الحديث: 125، ص: 41، ومسلم، ابن الحجاج النيسابوري؛ الصحيح، كتاب:  صفات المنافقين وأحكامهم ورقمه(50)، باب: سؤال اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح ورقمه(3)، وقوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) ، رقم: 2794، ص: 1707.
([18]) النيسابوري، علي بن أحمد الواحدي: أسباب النزول، المذيَّل بتفسير وبيان كلمات القرآن الكريم، لحسنين محمد مخلوف، بهامش القرآن الكريم، ص: 257.
([19]) سمعت هذا مباشرة من الدكتور سامي عابدين في محاضرة له عنوانها: (خَلق الإنسان بين العلم والفلسفة والقرآن ) في جامعة الإمام الأوزاعي.
([20]) هوالقاسم بن محمد بن بشار الأنباري كان محدثا" إخباريا" ثقة"، صاحب عربية، مات سنة 304ﻫ، له من التصانيف كتاب، خلق الإنسان، الأمثال، وخلق الفرس وكتاب المقصور والممدود، والمذكر والمؤنث، وله أيضا" غريب الحديث، وشرح السبع الطوال.( عن معجم الأدباء لياقوت الحموي، ج 16/ص:317 ).
([21]) ابن منظور، محمد بن مكرم؛ لسان العرب: ج6/ص: 233، والزمخشري، محمد بن عمر؛ أساس البلاغة: ص: 647.

([22]) ابن منظور، محمد بن مكرم؛ لسان العرب: مادة، (ع – ق - ل): ج11/ص: 458 وَص: 465 والزمخشري، محمد بن عمر؛ أساس البلاغة: ص: 43.

([23]) النبهاني, تقي الدين؛ التفكير: ص: 17.
([24]) مرسي , سيد عبد الحميد؛  النفس البشرية: ص: 27.
([25]) فريديريك إنجلز :  (1820م- 1895م) عالم اجتماع واقتصاد وسياسة, ألماني ولد في مدينة بارمن, شارك ماركس في المادية التاريخية والديالكتيك الجدلي مستفيداً من ديالكتيك هيجيل المثالي بصيغة مادية عكسية، أسهم بتأسيس النظرية السياسية للحركة الماركسية ومسودة الحزب الشيوعي – ومن مؤلفاته: حياة الطبقة العاملة في انجلترا، وجدَل الطبيعة، والاشتراكية الخياليَّة.  (نقلاً عن فلسفات التربية: لإبراهيم ناصر؛ ص: 327 بتصرّف).
([26]) الكلام مأخوذ عن الدكتور البوطي، محمد سعيد رمضان؛ أوهام المادية الجدلية: ص: 100.
([27]) راجع في شأن هذا المؤتمر كتاب قصة التطور للدكتور عبد العليم، أنور؛  ص: 11.
([28]) الترابي، حسن؛ الإيمان وأثره في حياة الإنسان: ص: 23.

([29]) خليل، عماد الدين؛ مدخل إلى موقف القرآن الكريم من العلم:  ص: 43. 
([30]) ابن منظور، محمد بن مكرم؛ لسان العرب: مادة،( ع – ب – د ) ص: 3 وَص: 270، والزمخشري، محمد بن عمر؛ أساس البلاغة: ص: 406.
([31]) ابن حنبل، أحمد؛ المسند: باقي مسند المكثرين، باقي مسند أبي هريرة، رقم: 9105.
([32]) خليل، عماد الدين؛ مدخل إلى موقف القرآن الكريم من العلم: ص: 43.
([33]) متفق عليه، رواه الإمام البخاري، محمد بن إسماعيل؛ الصحيح: كتاب: الأدب ورقمه(78)، باب: علامة حب الله عزّ وجل ورقمه(96)، ورقم الحديث: 6168، ص: 1131، والإمام مسلم، ابن الحجاج النيسابوري؛ الصحيح، كتاب: البّر والصِّلة والآداب ورقمه(45)، باب: المرء مع من أحب ورقمه(50) ورقم الحديث(2640)، ج4/ ص: 1614.
([34]) رواه الإمام الترمذي، محمد بن عيسى بن سَوْرة؛ السُّنَن، كتاب:  البر والصِّلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب: ما جاء في شفقة المسلم على المسلم ورقمه(18 )، ورقم الحديث: 1928 ج4/ص:325 وقال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسَن غريب، ص: 1932 عن أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه الإمام مسلم ، في صحيحه، في كتاب: البر والصلة والآداب ورقمه(45) باب: تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله ، ورقمه(10) ورقم الحديث(2564) ج4/ص:1577.
([35]) الفاعوري، داود علي؛ مجلة دراسات ج19 – العدد الرابع – 1992 – ص: 249.  مقالة بعنوان: غاية الإنسان في الحياة كما يصورها الإسلام.
([36]) الجمل، علي أحمد؛ القيم ومناهج التاريخ الإسلامي: ص: 22.
([37]) دياب، فوزية؛ القيم والعادات الاجتماعية: ص: 16.
([38])  إسماعيل، عماد الدين؛ وآخرون: قيمنا الاجتماعية وأثرها في تكوين الشخصية: ص: 4.
([39]) محمد خليفة، عبد اللطيف؛ ارتقاء القيم: ص: 37  مجلة عالم المعرفة: عـ 160.
([40]) الصدر، الإمام موسى؛ المذهب الاقتصادي في الإسلام:  ص: 32.
([41]) قانصوه، صلاح؛  نظرية القيم في الفكر المعاصر: ص: 90. 
([42]) عمر، نوال؛ الفيديو والناس: ص: 55. 
([43]) الصدر، الإمام موسى؛ المذهب الاقتصادي في الإسلام: ص: 19. 
([44]) الصدر، محمد باقر؛ اقتصادنا: ص: 27. 
([45])  يقول ماركس: " إنّ كمية العمل وحدها أو وقت العمل الضروري في مجتمع معين لإنتاج سلعة ما هي التي تحدد كمية القيم" : رأس المال: ج1/ص: 50.
([46] ) الصدر، محمد باقر؛ اقتصادنا: ص: 242.